عامر جليل ابراهيم /
“ربي جعل من لالش الأساس”، نص ديني من الديانة الإيزيدية من جملة نصوص ترجمت من اللغة الكرمانجية إلى اللغة العربية، يوضح المكانة الدينية والاجتماعية الكبيرة لمعبد لالش، فهم يعدّونه خميرة الكون وأول موقع استقرت فيه الملائكة حسب الميثولوجيا الإيزيدية ونصوصهم الدينية المقدسة.
مجلة “الشبكة العراقية” في سعيها للتعريف بالسياحة الدينية في العراق بشتى الديانات التي يزخر بها هذا البلد المتنوع التقت الباحث خلدون سالم النيساني وسلطت الضوء على أحد رموز الديانة الإيزيدية: معبد لالش النوراني.
يقول السيد خلدون سالم النيساني: يقع معبد لالش في وادٍ قرب مدينة عين سفني مركز قضاء الشيخان، نحو (60 كم) شمالي الموصل، ونحو (50 كم) شرقي مدينة دهوك على ارتفاع يبلغ نحو (3000) متر عن مستوى سطح البحر. يتميز الوادي المقدس بمناظره الجميلة الخلابة، وتحيط به ثلاثة جبال هي: “حزرت” إلى الغرب و”مشت” إلى الجنوب و”عرفات” إلى الشمال، وهناك طريق واحد للسيارات تؤدي إلى الوادي المقدس من جهة الشرق.
يضيف النيساني: وصف السيد صديق الدملوجي في كتابه “الإيزيدية ” عام 1949 وادي لالش المقدس وصفاً جميلاً نقتبس منه ما يلي: “في وادي لالش المقدس، وسط الجبال الشاهقة المكسوة بشجر البلوط والحور سالكين طريقاً معوجاً يرتفع بنا تارة وينبسط أخرى… سلكه مئات ألوف من الناس خلال العصور الغابرة قاصدين زيارته، وفي صعودنا الجبل نقف حائرين أمام تلك العظمة التي تجلت على هذا الوادي وجمال الطبيعة الذي شمله حتى يخال لنا ونحن مجردين عن الخيال والحس أننا في عالم علوي غير هذا العالم، وهناك يلتوي بنا الطريق ونعبر قنطرة (برصراطي)، أي جسر الصراط حيث يخلع المؤمنون منهم أحذيتهم دلالة على دخولهم منطقة الحرم الشريف، ونسير بين أشجار حجبت الشمس بأغصانها الكثيفة وعطرت النسيم العليل بأريجها الزكي وقد شمل الكون سكون مهيب لا يعكره سوى تغريد الطيور وهدير العنادل وخرير المياه التي تصب في الوادي”.
أصل التسمية
يحدثنا الباحث في الشأن الإيزيدي عن أصل تسمية المعبد قائلاً: اختلفت الآراء على تسمية لالش، فهناك من يرى أن اسم معبد لالش يرجع إلى اسم قريةٍ تقع بالقرب من مكان المعبد في سهل نينوى، بينما يرى آخرون أن لالش كلمة كردية مركبة من مقطعين الأول (لا) بمعنى (عند) او (مكان)، والمقطع الثاني ( له ش) بمعنى (الجسد)، أي مكان الجسد حيث ووري جثمان الشيخ ادي (عدي بن مسافر) وجملة من الأولياء.
ويمضي السيد النيساني بالقول: من التسميات الأخرى للمعبد والأماكن المحيطة به (مه ر كه) والتي جاءت من (مه ر) والتي تعني الشمس، و(كه) التي تعني (موطن) او (مكان)، وبهذا يكون المعنى (موطن الشمس)، ولهذا المعنى علاقة قدسية تدخل في المعتقد الإيزيدي الذي يعظم الشمس ويعتبرها إحدى تجليات الله، بالإضافة إلى دخول الشمس في الكثير من المعتقدات والموروثات الإيزيدية، ويعرف أيضاً بوادي الصمت والسكون، وذلك لأن المكان المقدس يلزم أن يركن الزوار والحجاج إلى الصمت والسكون، وحسب الميثولوجيا الإيزيدية وما جاء في النصوص الدينية الإيزيدية، فإن معبد لالش يعدّ مركز الدنيا وخميرة التكوين.
ويضيف: جاءت تسمية معبد لالش بالنوراني، لأن هناك أكثر من (365) موقعاً يتم فيها إشعال (القناديل) مساء كل يوم أربعاء، وفي ليلتي الثلاثاء والأربعاء بداية كل سنة جديدة يتحول المعبد إلى شعلة من الضياء، إذ يجري إشعال قناديل بعدد أيام السنة دلالة على استقبال الإيزيدية للسنة الجديدة بالنور (عيد رأس السنة الإيزيدية يصادف الأربعاء الأولى من شهر نيسان شرقي)، ويعد المعبد من أقدس الأماكن عند الإيزيديين ومعبدهم الرئيس الذي يزورونه من جميع أنحاء العالم، وتقام فيه الطقوس الدينية والأعياد والحج.
موقع (كانيا سبي) يعد أقدس موقع في المعبد (الحديث للنيساني) الذي يكمل: وكانيا سبي بركة ماء صاف تنزل في حوض عبر مدخل بوابة العين وعلى اليمين منها موقع السادن الذي يشرف عليها، وعلى كل شخص إيزيدي أن يغتسل ويرش الماء عليه في هذا المكان، ولا سيما الذين لم يسبق لهم زيارة المعبد، وهذا الأمر بمثابة التعميد الموجود لدى المسيحية.
تقام في المعبد أهم الأعياد الإيزيدية وأعظمها شأناً، وهو عيد الجما (الجماعية) في فصل الخريف، وهو عبارة عن سلسلة احتفالات دينية تستمر سبعة أيام، تبدأ من يوم الثالث والعشرين من شهر أيلول الشرقي (السادس من تشرين الأول الميلادي) وتنتهي في الثلاثين منه (الثالث عشر من تشرين الأول الميلادي).
رموز مقدسة
يصف النيساني المعبد بالقول: قبل الدخول إلى الوادي إلى يمين الطريق هناك (برا عنزل – قنطرة أو معبر عنزل) الذي يعبر عليه كل شخص إيزيدي ينهي مراسم زيارته للمعبد، وعندما نتقدم قليلاً تبدو أمامنا القباب وزوايا وجوانب المعبد وهي تظهر للعيان بصورة تدريجية.
عند مدخل المعبد الرئيس المبني من حجارة مربعة الشكل وبمقاسات متقاربة يرتفع جدار إلى أكثر من أربعة أمتار وبوابة كبيرة مصنوعة من خشب الزان عمرها أكثر من أربعين عاماً بحسب القائمين على المعبد، وإلى الجانب الأيمن من الباب الرئيس للمعبد حيث مدخل المعبد تعلو صورة أفعى سوداء يقدسها الإيزيديون لأنها أنقذت البشرية عندما لفّت نفسها في الثقب الذي أصاب سفينة نوح عندما اصطدمت بصخرة أثناء الطوفان.. ولهذا السبب نرى أن للحية السوداء في الموروث الديني للإيزيديين مكانة كبيرة فهي موجودة في أغلب معابدهم الصغيرة الأخرى كمعبد (شيخ مند) ومزاراتهم المختلفة.
أمام باب المعبد ثمة إيوان واسع بأرضية مفتوحة مرصوفة بالحجر الحلان، وإلى اليمين موقع أو دكة بابا شيخ، الزعيم الروحي الديني للإيزيدية حيث يجلس عليه في الأعياد التي تقام في لالش وهو يستقبل زائريه وإلى اليسار مقام بابا چاويش الذي يقوم بمقام الإرشاد الديني في المعبد.
مدخل وإيوان المعبد تتوسطه سبعة أعمدة مبنية من الحجر الجبلي ارتفاعها خمسة أمتار، يمثل كل عمود واحداً من الملائكة السبعة، في تسلسل القداسة في الديانة الإيزيدية، فليس بعيداً عن المدخل تقع بركة تسمى (بركة ناسر دين – أحد أولياء الإيزيدية) وحول كل عمود يمكن للزائر أن يشد قطعة قماش ويفك عقدة أخرى، دلالة على أن تفتح واحدة من العقد لآخرين يتمنون ذلك.
على جانبي الموقع تتوزع مواقع عدة (الفتايل – قناديل) تشعل كل أربعاء (وهو اليوم المقدس لدى الإيزيدية)، ثم قبر الشيخ ئادي (عدي بن مسافر الهكاري الكوردي المصلح الديني الرئيس للإيزيدية، هو الذي وضع العديد من المقررات الجديدة في الديانة الإيزيدية بعد أن انزوى بينهم في معبد لالش) ثم تتشعب الزوايا وعين الماء الذي يصب في مجرى رئيس داخل كهف عميق ينزل إليه الشخص سبع درجات بنحو مترين.
وإلى الجانب الأعلى يقع أقدم موقع في المعبد يعرف بـ (خانا ده انا- خل الدنان) حيث كان الزيت المستخدم في إشعال القناديل (الفتايل) يحفظ فيه، وما يزال بعض هذه القناديل موجوداً ويعود تاريخه لأكثر من ثلاثمئة سنة.
علامات ورموز قديمة
معبد لالش طراز فني رائع في العمارة والبناء، يمتزج فيه الفن السلجوقي وكذلك الشرقي القديم المرتبط بالتراث الديني الواسع فضلاً عن وجود بقايا علامات ورموز قديمة جداً تعود للقرون الأولى قبل الميلاد وهي مرسومة على الجدار الخارجي ويمكن ملاحظتها (عين الشمس، الحلقة المفتوحة وعلامات أخرى لا يمكن ملاحظتها إلا بالتمعن فيها جيداً).
وإلى ذلك تنتشر على جانبي الوادي الجبلي قباب ومزارات عديدة لأولياء الإيزيدية ولكل واحدة حجمها الخاص من البناء مع شكل موحد فبعضها مخروطي يضم اثنى عشر مفصلاً دلالة على عدد أشهر السنة، في حين تستند أخرى إلى قاعدة مربعة دلالة على الجهات الأربع، وهي تتجه إلى الشمس لمكانتها في الديانة الإيزيدية، كما تنتشر في الأطراف الدكات والمواقع التي يجلس عليها الزائرون، متوزعة بين كل زاوية وخطوة باتجاه القناديل.
وهناك أكثر من 365 موضعاً توقد فيها القناديل (فتايل- چرا) مساء كل أربعاء وكذلك توجد في لالش ست قباب كبيرة أبرزها قبة مزار شيخ عدي (شيخ ئادي) وشيخ شمس وشيخو بكر، وكانيا سبي وأكثر من أربعين موقعاً ومقاماً مقدساً لأولياء صالحين، لكل منهم موقعه ومقامه لدى الإيزيدية”.