مكافأتان من مجلة ونسخة من أغاني أبي الفرج الأصفهاني

عبد الزهرة زكي/

المكافأة الثانية التي أتلقاها في أثناء حياتي الأدبية كانت من مجلة الطليعة الأدبية في أواخر السبعينات، كانت بحدود اثني عشر ديناراً، إنها تكفي لشراء كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، الأمر الذي جعل سعادتي بها لا حدّ لها.

المكافأة الأولى كانت أيضاً من هذه المجلة التي أُنشئت لتكون مجالاً لكتابات الأدباء الشباب في مختلف المجالات. كانت تلك المكافأة قد خصصتها، حتى قبل تسلمها، من أجل مفاجأة الوالدة بسعادةِ أول أجر أتقاضاه في حياتي؛ وفعلاً حال تسلمي المبلغ كنت في سوق التجار القريب من المصارف في شارع الرشيد حيث محال بيع الأقمشة الأجنبية الفاخرة، اشتريت لها قطعة قماش من كشمير هندي كان حينها موضة النساء ممن هن بعمرها وبثقافتها. لم يشغلها القماش عن سؤالي أولاً وقبل كل شيء عن مصدر المبلغ فيما أنا طالب جامعي أعيش على ما يؤمِّنه الوالد. حاولت توضيح معنى أن يتسلّم شاعرٌ مكافأةً عن قصيدة تنشر له في مطبوع، لكنها حتى اليوم لم تدرك دواعي أن يقبض إنسانٌ مبلغاً مالياً مقابل (كلام) يضعه على ورق، خصوصاً أن هناك لازمة شعبية كثيرا ما تتردد: وهل الكلام بفلوس؟

لكن المكافأة الثانية كان مقرر لها أن تكون من حصة الأصفهاني.

في مكتبة عباس بن الأحنف، وهي مكتبة عامة حكومية، وهي الوحيدة حينها في مدينة الثورة، أتيح لي مرات أن أتصفح وأقرأ جوانب من كتاب الأغاني. أن تقرأ عن هذا السفر شيء فيما قراءته شيء آخر. إنه كتاب نادر من حيث قدرته العجيبة على وضع الكثير من الشعر في سياقه الحياتي فيما هو يفتح أفقاً حيوياً على الحياة اليومية في البلاطات، ومن خلالها الحياة العربية العامة على مدى قرون، وموقع الشعر والفن والجمال فيها. وبخلاف ما تقدمه القراءات المتعسفة ضد مؤلفه فإن الأصفهاني كان دقيقاً كثيراً في تفادي التورط برأي، إنه يكتفي بسرد وقائع لا يتحمس لها ولا يتعفف عنها كما يطلب منه ذلك نقاده المتعسفون. إنه تعسف لا يقدم براهينه على دحض افتراءات يفترضها في روايات (الأغاني) ولكنه لا يريد أن يصدقها، فيما الحياة العامة تحتمل ما هو أكثر من تلك الروايات حتى في راهننا. لقد أكد العلامة ابن الجوزي البغدادي وجوب فسق الأصفهاني، فيما وضع مؤلف بغدادي معاصر هو الراحل وليد الأعظمي كتاباً بعنوان (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني). حقيقةً كنت أقرأ الكتاب من دون انشغال بقبول أو رفض له ولرواياته انطلاقاً من موقف ايديولوجي، قدر ما كنت استمتع بجانبين مهمين كما أراهما في الكتاب؛ جمال اللغة وجمال الصياغات السردية.

بعد أكثر من عام على مكافأة (الطليعة الأدبية) الأولى عادت المجلة فنشرت لي قصيدة أخرى، لم أكن أعرف أحدا في المجلة لكن المحاسب وقبل أن يسلمني المكافأة أوضح لي أن رئيس التحرير، وكان الراحل منذر الجبوري، يريد أن يلتقيني.. استغربت وكدت أسال المحاسب ما إذا كان تسلم المكافأة مشروطاً بلقائي رئيس التحرير، لكن، ومن حسن الحظ، كان الرجل أسرع مما اعتمل في داخلي حيث مباشرةً طلب مني أن أوقع وهو يعدّ الدنانير ليسلمني إياها، فخجلت مع نفسي من سوء ظني. لم أتخلص من تأنيب الضمير حتى بحت لمنذر وحال لقائي به بما اعتمل في داخلي، فضحك، وأسمعني طرفةً عما حصل له مع أول مكافأته له. منذر الجبوري أحد أكثر أدبائنا مرحا وخفة دم وسرعة بديهة، يرحمه الله.

في ختام اللقاء الذي كان يريد منذر الجبوري به التعارف والتعرف على تصوري عن الشعر، ولما كنا في ثنايا ذلك قد مررنا بحديث عابرٍ عن المكافآت، فقد سألني، وأنا أصافحه مودعاً، ما إذا كنت سأذهب إلى حانةٍ من حانات أبي نواس. إنه سؤال مجاملة في نهاية لقاء أول، أوضحت له أن المبلغ مخصص لشراء كتاب الأغاني، وسأذهب مباشرةً إلى مكتبة المثنى لشراء نسخة منه قبل أن أتصرف بالدنانير.
بقي منذر ممسكاً بكفّي للحظاتٍ بدا خلالها سارحاً حتى عاد ليطلب مني أن أزوره في اليوم التالي:» خذ المبلغ، تصرف به، لا تشترِ الكتاب، غداً تعال وخذ نسخة زائدة عندي من (الأغاني)، أنت تستحقها، اتعبره المكافأة الأهم مني عن قصيدتك». أردت أن أقول له إن الشعراء أكرم من الحكومة، لكني خشيت وترددت حتى من احتمال احراجه فعدّلتها بالقول: شكراً جزيلاً، الشعراء أكرم من المجلات.

تفاجأت فعلاً بهذا العرض السخي، مَن يقوى على التخلي بهذه السهولة عن نسخة من كتاب مثل كتاب الأغاني؟

استغرق تأليف الكتاب من أبي الفرج الأصفهاني خمسين عاماً، إنه أحد أهم الموسوعات العربية، وهو واحد من كتبٍ بات من المستحيل أن تتاح لمؤلف القدرة والصبر على الاستغراق في تأليف ما هو مثله. يروى أن أول نسخة منه تلقى عنها الأصفهاني من سيف الدولة الحمداني ألف دينار، لكن نسختي الأولى من الكتاب كانت هدية.

لسنوات بقيت أنتظر من أجل التوفر على مبلغ يسمح لي بشراء كتابٍ ظل حلماً، وكانت الحاجة إليه تزداد كلما تقدمت السنوات وقلت معها فرص الحصول عليه. لكن وفيما يكون المبلغُ بين يدي فها هو الكتاب يأتيني فجأة مهدىً من شاعر أتعرف عليه مباشرة للمرة الأولى.
لقد جعل منذر الجبوري نهاري واحداً من أسعد النهارات، ختمته وقضيت على ظهيرته القائظة بمشاهدة ممتعة لفيلم جديد لنجم السبعينات جون ترافولتا، كان يُعرض للمرة الأولى في القاعة المكيفة جيداً حينذاك لسينما سمير أميس.