مكتبة المعقّدين … الرصيف المعرفي الذي تحول إلى مكتبة

آية منصور /

يلتقط  روح الكتب بقلبه، كمن يلتقط جوهرة، يبحث في مناجم الثقافة والأدب، ليجد ضالّته، ويؤسس مكتبة تضم، رغم غرابة اسمها، مئات العناوين اللامعة في سماء الإصدارات. “مكتبة المعقّدين” ومؤسسها فارس الكامل سيكونان ضيفينا في عددنا هذا، وسلسلتنا المحبّة لمكتبات العراق. المعقّدون ليسوا كذلك
يحدثنا، مبدئياً، السيد فارس الكامل بشأن سؤالنا عن اختياره لهذا العنوان دون غيره لمكتبته الواقعة في البصرة، والمؤسسة منذ عام 2011، ليجيبنا بابتسامة، كما يؤكد التقاط العنوان صدفة من متابعته لتاريخ المقاهي الأدبية في بغداد والعراق، فوجد مقهى المعقّدين الواقع في بداية شارع السعدون عند نفق ساحة التحرير، وهو أحد أقدم المقاهي الأدبية، مضيفاً: قرأت عن هذا المقهى في كتب عدة: “الروح الحية” لفاضل العزاوي، “الموجة الصاخبة” لسامي مهدي وغيرهما. وكان الاسم لافتاً ويمس فعل القراءة، فالتصور المغلوط عن القراء أنهم معقّدون، فأحببت أن أزعزع أساس هذا المفهوم وأثبت أن القراءة هي التي تخلص الأفراد من عقدهم وليس العكس.
سنوات الكتب تكبر
فكانت مكتبة المعقّدين التي تم تأسيسها في الكويت عام 2011 لتحمل هذه الروح العراقية، وانتقلت بالكامل عام 2016 إلى البصرة، على الرغم من دخول مؤسسها، فارس الكامل، عالم الكتب مذ تسعينات القرن الماضي، وقبلها، مستبشراً بحبه الكبير للقراءة، عبر مجلة “مجلتي” وجريدة “المزمار” للأطفال، اللتين كانتا نواة مكتبة فارس الأولى. وفي بداية التسعينات انتقل من مدينته البصرة إلى العاصمة طالباً في كلية الآداب بجامعة بغداد.
– كان شارع المتنبي من الأماكن المفضلة لدي، وتحولت إلى زبون دائم لكل باعة الكتب هناك، ومع الوقت وبفعل حاجتي لزيادة دخلي أيام الحصار صرت أذهب كل جمعة لأبيع ما قرأته من الكتب واشتري بثمنها كتباً جديدة. وهكذا أصبحت تدريجياً بائعاً في شارع المتنبي، وامتلك مساحتي الخاصة من هذا الرصيف المعرفي، وكان ذلك عام 1993.
حرفة الكتاب.. واستمرارها
أصبحت الكتب مهنته الأولى، ومع ارتباطه بمهن أخرى كعمله في الصحافة داخل دولة الكويت أو أعمال أخرى في رحلة حياته، تبقى مهنته مع الكتب، وحسب قوله لنا، هي المهنة الرئيسة، وباقي المهن هي مساعدة وجانبية.
– العمل مع الكتب عمل ممتع والمشقة الوحيدة هي أوزان الكتب، أما الوزن المعرفي الذي تمنحك إياه هذه الكتب، فيخفف عنك كل مشقة.
حاول الكامل في البدء أن يمضي باختياراته للكتب على وفق توجهاته وأفكاره، بمعنى أن تكون اختيارات مدروسة بعناية، وتعبر عن ذائقته في عرض الكتب داخل المعقّدين. ويتابع:
– بعد أن تحولت المكتبة إلى مشروع تجاري ملزم ببدل إيجار ورواتب موظفين، أصبح تنوع اهتمامات المكتبة أكبر لكي تغطي أذواق الناس المختلفة، وحتى تضمن استمراريتها كمشروع ثقافي غير محصور بمنطقة معينة أيضاً.
التخصص الذي أصبح شاملاً
يذكر لنا أن الدفعات الاولى من الكتب التي أصدرتها الدار كانت مزيجاً من كتب الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الأديان المقارن ونقد الفكر الديني، وأغلب العناوين كانت لهادي العلوي، حسام الآلوسي، فؤاد زكريا، زكي نجيب محمود، صادق جلال العظم ، جورج طرابيشي وغيرهم الكثير، يردف صاحب المعقّدين:
– مكتبتنا فضاء مفتوح، منذ أيامها الأولى في شارع المتنبي حتى موقعنا الراهن في مول البصرة تايمز سكوير، فالمكتبة الآن عبارة عن جدار طويل في ممر وسط المول، وكأننا في شارع المتنبي، لم تحدنا جدران في محل، وكأنها امتداد لأفكارنا.
الفتيات أولاً.. والرواية
ولأن المكتبة متنوعة بإصداراتها، الأمر الذي جعلها تتنوع بروادها وقرائها كذلك، إذ تحاول (المعقّدين) توفير مختلف أنواع الكتب والإصدارات، حتى الأجنبية منها، وللأطفال حصة كبيرة من أهم دور النشر العالمية. ويخبرنا السيد فارس أن أكثر رواد المكتبة هم من الفتيات الشابات، اللواتي يقبلن على الرواية بشكل كبير.
الهرب نحو الحياة
يؤكد الكامل أن تفجير شارع المتنبي أحدث فارقاً كبيراً في حياته، جعله يترك العراق متجهاً إلى الكويت. لكن افتتاح شارع الفراهيدي للثقافة والكتاب شجعه على أن ينتقل تدريجياً ونهائياً من الكويت إلى البصرة، وهذه إحدى مفارقات الموت والولادة الثقافية في حياة الكتبي فارس الكامل.
ويوضح أن مكتبته لا تحوي كتباً نادرة، وحسب رأيه فإن الكتب النادرة لها هواتها المتخصصون، وهي مكتبات شخصية في الغالب، ويؤكد أن مكتبته الشخصية من بينها، ولديه نوادر عديدة بتوقيع أصحابها.
– أهم مقتنياتي من الكتب كتاب شخصي للسياب عن تاريخ الأدب الإنكليزي، وحصلت عليه من العائلة بصفتي أحد أقارب الشاعر بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر، كما أمتلك عشرات الكتب النادرة، لكنني لا أستطيع التفكير بالتفريط بها.
دار المعقّدين للنشر
في عام 2016 تحولت المكتبة إلى دار نشر، وفي ثلاث سنوات أصدرت 50 إصداراً متنوعاً بين الشعر والرواية والدراسات الاجتماعية والفكرية والسيرة الذاتية وكتابين للأطفال، كما شاركت الدار في أغلب معارض الكتب المحلية والعربية، إذ يشير السيد الكامل إلى أن المكتبة لديها شبكة من العلاقات الثقافية والاجتماعية مع الوسط الأدبي.
– يكفينا فخراً أن رفوف مكتبات أعلام الثقافة العراقية والكويتية تحوي كتباً غير قليلة أصدرتها مكتبتنا لهؤلاء أثناء رحلتها من بغداد إلى الكويت فالبصرة، وأسهمت في إشاعة الفكر التقدمي التنويري في الوسط المحيط والقريب من المكتبة.
حركة وعي.. ليست مجرد مكتبة
أما على المستوى الشخصي، فقد تطور القارئ الذي هو في داخل السيد فارس، حسبما يرى، الى قارئ نوعي، وانعكس هذا على أفراد عائلته الصغيرة والكبيرة ومحيط الأصدقاء بإشاعة التسامح والتعددية ونبذ التعصب، مؤكداً:
– أن أحد الأصدقاء قريب من المعقّدين يعتقد أن المعقّدين هي حركة وليست مجرد مكتبة ودار نشر، وهي امتداد حقيقي وصادق للجيل الأول من المعقّدين الذين كان يجمعهم مقهى إبراهيم في بغداد.
لنحتفِ بالكتاب
ويختم حديثه مؤكداً: أن الوسط الثقافي متنوع ويشهد حركة نشر قوية، وقد استرجع المنشور العراقي مكانته بين دور النشر العربية، وعدد القراء لا يستهان به وهم سبب رئيس في استمرارية المكتبات، ويتابع بالقول:
– الاحتفاء مستمر بالكتب وصرنا نشهد شوارع ثقافية على غرار المتنبي في كثير من المحافظات، فضلاً عن معارض الكتب الدولية التي تشهدها بغداد وأربيل سنوياً.