ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
لم تتغير، فلها نفس ابتسامتها المشرقة، ولعينيها نفس البريق الذي لازمهما لأكثر من أربعين عاماً، فهل اكتشفت إكسيراً يحفظ لها شبابها ويجدده؟!
لم تتغير في منيرة المهدية إلا نظرتها للحياة، فهي عندها تافهة لا قيمة لها، وقد حجّت الى بيت الله خمس مرات، وتؤدي الآن الصلاة في أوقاتها، وترتدي ملابس يرضى عنها الشيخ أبو العيون، وكانت ملابسها في أيام شبابها ومجدها مثار دهشة رجال التقى والصلاح!..
والحاجة منيرة تتذكر كثيراً.. تذكر أنها كانت صديقة لأكثر رؤساء الوزارات والوزراء.. وفي مقدمتهم رشدي وثروت ومحمد سعيد، وكانوا يجتمعون في دارها بمصر الجديدة او في عوامتها الفخمة “فيلا كلير” حيث يقضون السهرة وتتصدر المكان وتغني بصوتها الحلو الجميل.. فيسكر السامعون بلا خمر..
وفي البيت، او في العوّامة، كان رئيس الوزارة والوزراء ينتهزون فرصة اشتغال سلطانة الطرب بارتداء ملابسها فيعقدون مجلس الوزراء للبحث في أهم المسائل، حتى اذا ما انتهت من ارتدائها ودخلت الغرفة، انفض اجتماع المجلس. وقد أعدت السيدة منيرة يوماً مائدة فاخرة حوت ما لذّ وطاب من الطعام والشراب، وبعد أن أكل المدعوون وانتشوا، وكان بينهم الوزير والكبير، جمعوا فيما بينهم مبلغ ألف وخمسمئة جنيه وقدموه هدية اليها، ولكنها تساءلت في استنكار لم هذا المبلغ؟.. فأجابوا بأنه بقشيش للخدم!.. فردت لهم نقودهم قائلة:
– منيرة لا تتقاضى ثمن الوليمة من ضيوفها وهذا المبلغ أكثر من بقشيش..
وبعد إلحاح سمحت بأن يأخذ الخدم عشرة جنيهات “بقشيشات”! وهي تذكر أن مسرح برنتانيا شهد أياماً حلوة لم يشهدها في الماضي ولن يشهدها في المستقبل، إذ كان صافي إيرادها منه بعد نفقات المسرح ومرتبات الممثلين وأفراد التخت ونفقاتها الشخصية 1500 جنيه في الشهر.
وتذكر أيضاً أن المغفور له حسين رشدي باشا، “قائممقام الخديوي” وناظر النظار، كان أكثر الناس إعجاباً بها، وكان لا يرد لها طلباً.. ولعله أول عظيم في مصر قبّل يد مطربة وممثلة. أخرجت منيرة مسرحية كليوباترة ومارك أنطوان وكان الشاب محمد عبد الوهاب يقوم بدور مارك انطوان ويتقاضى عشرة جنيهات عن حفلتين في اليوم، فكان ظهور عبد الوهاب في هذه المسرحية الى جانب منيرة المهدية الحجر الأول في بناء مجده.. وفي أثناء عرض هذه المسرحية كانت منيرة في محل “البون مارشيه” تشتري بعض الحاجات وهناك قابلها رشدي باشا فانحنى وقبّل يدها أمام الجمهور وموظفي المحل.. ثم تأبط ذراعها وهو يقول –أنا انطونيو.. عبد الوهاب مفيش..
ومما تذكره منيرة أن الوزراء وباشوات ذلك العهد كانوا ينتقلون الى المسرح بعد انزال الستار لتهنئتها.. فكانت لا تقابلهم إلا بعد أن تذهب الى غرفتها وتبدل ملابسها استعداداً للفصل التالي كما تذكر أنها سببت أزمة لمعالي أحمد خشبة باشا وزير العدل الحالي –لأنه قبّل يدها- وكان وزيراً.. فحملت عليه الصحف وتزلزل كرسي الوزارة تحته ولكن الله سلّم..
وكانت منيرة تنفق المال بلا حساب وتقتني مجوهرات ومصوغات بمئتي ألف جنيه، وتنفق على ثيابها الألوف.. وقد ظهرت في مسرحية (الغندورة) بثوب ريفي قيمته ألف جنيه إذ زينته بالجنيهات الذهبية وكانت تحفظه في خزانة حديدية بعد انتهاء التمثيل!
وكانت تعامل شركات الإسطوانات دون أن تعرف أجر تعبئة الاسطوانة.. انها تأخذ ما تريد من إخوان بيضا وهم يعدونها الدجاجة التي تبيض لهم الذهب فيسلمونها مفتاح الخزانة واذا قامت برحلة الى الأقطار الشقيقة أعدّوا لها السكن اللائق وسيارة فخمة طوال مدة رحلتها، قامت برحلات عديدة، وفي إحدى هذه الرحلات أراد سلطان المحمرة في البحر الأحمر أن يضع يده عليها، لكي لا تغادر بلاطه.. ولكنها رفضت.
وقد غنت أمام الغازي مصطفى كمال فأعجب بصوتها وطلب اليها أن تغني في ليلة اخرى، فنفذت أمره، وجلس في مقصورته يشرب الزبيب، ويسمع المطربة المصرية “منيرة خانم”..
واستمر الغازي يسمع ويشرب ويكتب ومنيرة “خانم” تغني الى الساعة الرابعة صباحاً، وختمت السهرة بأن قال مصطفى كمال: إنه كان لا يحب الغناء العربي. ولكن هذا الصوت كشف له عن حلاوة الغناء العربي.. ووصف صوتها بأنه يتألف من أربعة أراغيل، “جمع أرغول”..
تقول منيرة:
– ربحت كثيراً يوم كان التعامل بالجنيهات الذهبية، ويوم كان الجنيه الورق يساوي ستة من جنيهات هذه الأيام.. كنت أنفق كثيراً، ولم أحرم نفسي شيئاً.. لقد عشت.. ورأيت الدنيا.. وتمتعت بها، أريد ان أعود الى الجمهور ولكن الخجل يمنعني!..
– أمنيتي ان أظهر في السينما في رواية “كلها يومين” التي ألفها يونس القاضي ولحّنها المرحوم الشيخ سيد درويش، فإن حوادثها تنطبق على حوادث هذه الأيام..
* وما رأيك في الإذاعة؟..
– لا أسمع الا القرآن ونشرات الأخبار..
* ومن يعجبك من المطربين؟
– أم كلثوم وفتحية أحمد وليلى مراد ونجاة علي ونور الهدى وصالح عبد الحي وعبد الوهاب ومنيرة المهدية!..