سرمد عباس الحسيني/
“حقوق الإنسان غير قابلة للتفاوض، ويجب أن يؤخذ هذا كأمر مفروغٍ منه.” هذه الجملة جزء مقتبس من بيان نشر في الحسابات الرسمية لمنتخب ألمانيا المشارك في كأس العالم 2022 المقامة في قطر.
وقد جاء هذا الرد مقروناً بصورة للمنتخب الألماني قبل مباراته مع منتخب اليابان، التي خسرها (2_1)، وضع فيها اللاعبون في الصورة يدهم على أفواههم تعبيراً عن تكميم الأفواه ومنع حرية التعبير في هذه البطولة (حسب البيان).
البيان المنشور وفعل الصورة ينمان عن ازدواجية معايير واضحة المعالم، فهما من جانب يرفعان شعارات حرية التعبير وحماية حقوق الإنسان أين ما كان، وتحت هذه الشعارات أتاحت بعض الدول الغربية لنفسها الحق بتغيير أنظمة سياسية، سواء بالغزو المباشر لبعض الدول أو من خلال الثورات الملونة التي أدت الى ذات نتائج الغزو المباشر المدمرة.. إن لم تكن أكثر. ولعل أمثلة أوكرانيا وجورجيا ومصر الإخوان وليبيا، وما يحدث في سوريا وحتى العراق ليست عنا ببعيدة. وإذا ما أردنا تطبيق ذات المبادئ بذات المسطرة (غير القابلة للتفاوض)، فهل من تفسير منطقي للقاء الرئيس الأمريكي (بايدن) بالرئيس الصيني (بينغ) ومصافحتهما الحميمية على هامش قمة العشرين وسط ابتسامة عريضة من بايدن، وهو من اتهم الصين عبر إدارته باضطهاد مسلمي الإيغور صينياً؟!! وأين كانت حقوقهم المهدورة إنسانياً وسط تلك المصافحة؟! وهو ذات الاتهام الذي أكدته الأمم المتحدة تجاه الصين؟!
وإذا ما كان ملف حقوق الإنسان هو الأعلى صوتاً في المونديال العالمي في قطر من قبل الأصوات الغربية، فهل يمكن لهذه الأصوات أن تجد لنا تفسيراً منطقياً لما يحدث في فلسطين من انتهاكات وحشية تجاه شعبٍ أعزل لم يستثن فيها أطفال المدارس الابتدائية من قبل جنود مدججين بأسلحة فائقة الحداثة، دفع رعبها الطفل الفلسطيني (ريان) ذا السبعة أعوام إلى السقوط من مرتفع شاهق خوفاً من الجنود الإسرائيليين الراكضين خلفه لمجرد شكهم بأنه قد رماهم بحجر، ليسقط ريان شهيداً متأبطاً حقيبته المدرسية التي ما أكمل فيها منهاج سنته الأولى!!
إن الاتهام بالنفاق، وازدواجية المعايير، ليسا اتهامين خاصين بنا تجاه الأصوات المهاجمة لمونديال قطر، بل إنهما اتهامان من قبل أصوات منصفة تجاه هذه الازدواجية من أبناء جلدتهم ومنظومتهم الفكرية، ولعل تصريح رئيس لجنة الفيفا (جاني إنفانتينو) -قبل أيام- حين أشار الى “أن الاتهامات والانتقادات المتعلقة بكأس العالم في قطر تنم عن نفاق” فيه الكفاية!!
وهو الأمر الذي أكده ودعمه المعلق الرياضي البريطاني الشهري (بيريز مورغان)، وذلك عند محاولة ثنيه عن حضور المونديال وتحريضه على (قطر)، إذ أشار الى أن “الجدل بشأن قطر مبني على تناقضات من النفاق الدولي المتأصل، والازدواجية في المعايير، وإذا ما ذهبنا في عداء هذا المونديال (لأسباب تتعلق بحقوق العمال وحقوق الشواذ) ومنع إقامته في قطر.. فأين نقيمه؟! هل نقيمه هنا في بريطانيا التي غزت العراق بشكل غير قانوني؟!.. بالنسبة لي سأذهب الى قطر.. وسأقوم بإجراء تحليلاتي الرياضية لمؤسستي الإعلامية.. وأؤكد.. لماذا لا أذهب؟!! إذ يمكنني القول إن الجدال حول غسيل السمعة الرياضية.. يغلب عليه النفاق، وإذا ما طبقنا هذه المبادئ ومعاييرها الازدواجية بسطحية.. فأين سيتوقف ذلك؟! ومن هو النظيف منا أخلاقياً بما فيه الكفاية لاستضافة كأس العالم؟!”
نفهم مما ذكر أن القضية غير متعلقة حرفياً بملف حقوق العمال المشاركين في بناء ملاعب مونديال قطر التي كلفت 220 مليار دولار، ولا تتعلق بالأساس بمسألة حقوق الشواذ التي نجحت فيها (قطر) بفرض قوانينها العربية والإسلامية وتطبيقها على أرضها، بل إن القضية تتعلق (حسب صورة المنتخب الألماني وتكميم أفواههم) بالتعالي الأوروبي والغربي تجاه كل ما سواهم من شعوب ودول استطاعت إثبات وجودها، واللحاق بركب التطور والتقدم بطريقة (الند للند)، وهو الأمر الذي لم تستوعبه ذهنيتهم وعقليتهم التي مازالت تنظر إلينا باعتبارنا حدائق خلفية لطموحاتهم، أو مجرد آبار نفط عند حاجتهم لها في مواجهة الدب الروسي الذي أوصد باب طاقته في وجوههم.
تلك الذهنية مازالت تؤمن بأحقية أصحاب الدم الأزرق والبشرة البيضاء والعيون الملونة بتفوقها على باقي الأجناس، ولعل ما رشح من أمثلة مؤيدة لهذا الطرح في الحرب الروسية-الأوكرانية ليس عنا ببعيد.
وهي ذاتها التي مازالت تعطي لنفسها الحق في أن تعيش وتعتقد وتمارس ما تشاء، وكيفما تشاء بحجة حرية التعبير وحقوق الإنسان، لكنها تفرض في الوقت ذاته على الآخر المختلف عنها ما تعتقده وما تؤمن به بما تشاء وكيفما تشاء.. ولعمري فإنها قسمة ضيزى.
القضية برمتها.. أن بعضهم لم يستوعب أن تقام بطولة كأس العالم في دولة عربية-مسلمة- شرق أوسطية.. ونجحت بإقامتها على أتم وجه، ولم يستوعبوا أن تكون دولة (صغيرة جغرافياً) قد نجحت في فرض إرادتها على إرادة الكبار، وفرض ما تعتقده وتؤمن به من قوانين واعتبارات أخلاقية وسماوية على من كان يعتقد -لحد هذه اللحظة- أن الشمس ما زالت تشرق على مستعمراته رغم حالات الكسوف الكثيرة.. ومنذ أمدٍ بعيد.
فالخلاصة باختصار.. لم يستوعب البعض المؤثر في المشهد السياسي-الاقتصادي-الرياضي العالمي، أن تكون هناك دول وشعوب مازالت تعيش على الفطرة السليمة التي وضعها لنا الله… في مشترك كتبه السماوية المؤكدة على صحة الصحيح وإن طال الزمن.. ومن كان يعتقد أنه بلا خطيئة.. فليرمِ مونديال قطر.. بحجر.