ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
بلغت الأربعين دون أن أحاول يوماً ما أن أمسك بفرشة الرسم، فقد كان هذا الفن في نظري –حتى ذلك الحين- لغزا لا سبيل الى حله لغير نفر قليلين من الموهوبين!
وفجأة وجدتني منهمكاً في الرسم، وأصبح هوايتي المفضلة التي تستغرق معظم أوقات فراغي، وأجد فيها من المتعة والفائدة ما لم أجد في غيرها من الهوايات!
أنها اقدر الهوايات على أن تنسي صاحبها أحزان الماضي ومتاعب الحاضر ومخاوف المستقبل، وهي تفعل ذلك دون أن تكلف ذهنه او جسمه اي عناء، فهو لا يكاد يشرع في رسم المنظر الذي أمامه حتى ينصرف اليه ويتركز كل تفكيره فيه، فلا يبقى هناك مجال لأن يفكر فيما عداه!
كنت اجتاز أزمة نفسية قاسية في شهر مايو سنة 1915، وكانت أمامي ساعات فراغ طويلة، لا أجد عملاً اؤديه فيها برغم أن كل ذرة في جسمي كانت تشتعل حماسة للعمل، وفي يوم أحد مضيت الى حديقة عامة في احدى الضواحي، واتفق أن رأيت هناك صبياً يعبث ببعض الألوان على لوحة من ورق، فتملكني شعور غريب لم أدر بم اعلله، ثم سرعان ما أرسلت في شراء أدوات كاملة للرسم بالزيت، وهناك أمام أحد المناظر الطبيعية الساحرة وضعت الحامل الصغير الجميل، واثبت فوقه لوحة من الورق الأبيض الناصع، ثم اخذت مجلسي خلفها فوق الاعشاب الخضراء حيث فتحت علب الالوان المختلفة، ورحت اتأمل فيها تتنازعني عوامل شتى، من الاعجاب ببريقها ولمعانها واختلافها، والتساؤل في دهشة عما عساي صانع بها، على انني ما لبثت ام امسكت بالفرشة، وفي حذر شديد غمستها في اللون الاخضر، ثم مضيت بيد مرتجفة مترددة ارسم على اللوحة بضعة خطوط!
وما ان انتهيت من هذه البداية الشاقة، واخذت اتأمل في الخطوط التي رسمتها، حتى سمعت صوت سيارة تقف بالقرب مني، ثم اذا باحدى الرسامات المعروفات في ذلك الحين تهبط منها، فتحييني وهي تمعن النظر في اللوحة و أدوات الرسم وتقول في دهشة: “ما هذا؟.. متى هويت الرسم؟.. هيا، هيا.. لا تتردد، انك فنان ولا شك، فاغمس فرشتك في اللون وانقل على اللوحة ما شئت مما تراه!” وشعرت بأن القيد الذي كان يغل يدي قد تحطم فجأة، وانطلقت ارسم في غير تردد ولا توقف منذ ذلك الحين!
بهوايته، ومع اني لا أنكر قدر الالوان المائية، أرى أن الألوان الزيتية اكثر تشجيعاً للرسامين المبتدئين، وذلك لان تصحيح اخطائها أيسر، كما انها تتيح الفرصة للبدء برسم المنظر المطلوب رسمه من اي اتجاه، ومن أية زاوية، وهذا عدا ما لجمال هذه الالوان من سحر واغراء ومزايا عديدة أخرى تجعلها سهلة الاستعمال..
انني أنصح لكل انسان بأن يحرص على الاستمتاع بهواية الرسم حتى آخر يوم في حياته، وقد لا تكفي الحياة كلها –مهما تطل- لاشباع هذه الهواية الجميلة، ولهذا اعتزم، حينما يحين الوقت لانتقالي الى الحياة الأخرى، ان اقضي جانباً كبيراً من المليون سنة الأولى، لي هناك، في الاشتغال بالرسم وتعرف خبايا هذا الفن الجميل ولا شك في ان الالوان حينذاك ستكون أزهى وأبهج للعين والنفس من الالوان التي نحصل عليها الان!
ولسوف تدهش –بعد ان تهوى الرسم- من الاشياء العديدة التي ستلحظها فيما حولك من مناظر، والتي لم تكن تراها من قبل!
سترى في أمواج البحر، وغروب الشمس، وسفوح التلال، وبزوغ القمر، ظلالا والوانا وانعكاسات لم تكن تفطن اليها من قبل.
ولقد عشت أنا، أربعين عاماً –وهي الفترة التي سبقت هوايتي للرسم- لا أكاد استمتع بالجمال الذي يحيط بي، لأنني كنت انظر الى ما حولي بطريقة عامة، واحسب أن حاسة –التدقيق عند النظر الى الاشياء، احدى الميزات التي اكتسبتها من اهتمامي بالرسم.. فلابد للرسام من قوة الملاحظة وتعود ادراك التفاصيل والتغلغل الى الاعماق وحبذا لو عنى بعض الاخصائيين بدراسة الدور الذي تقوم به الذاكرة في الرسم، فالرسام الفنان لابد له من ان يختزن في ذاكرته كثيراً من الصور التي تمر به حتى يستطيع أن يجسمها على الورق بعد ذلك. وليس كهواية الرسم حافزاً الى السياحة والنشاط واحتمال المشاق، ولهذا كان كل هواة الرسم من المولعين بالاسفار والرحلات، و يجدون فيها متعة كبرى مهما تكن الظروف والأحوال!
اشتر اليوم أدوات للرسم وجرب هذه الهواية.. أنها رفيق يصاحبك حتى الساعات الأخيرة من رحلتك في الحياة، وقد تكون لك هواية أخرى كالرياضة، ولكنك بمرور الزمن سترى انها تتطلب قوة ومجهوداً فتضطر الى تركها و احدة بعد أخرى، نزولاً على حكم السن وما يتبعه من ارتخاء الذهن وتبلده، ولكن هواية الرسم لا تقتضي منك مجهوداً او تعباً.. ولهذا تلازمك حتى آخر لحظة، هازئة من معاول الزمن التي تهد القوى وتسلب الابدان نشاطها وحيويتها.