نظرت لي أمي عند ولادتي وقالت: بنت وقبيحة أيضاً؟

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

ولادتي كانت أول صدمة.. فأنني استقبلت بأسوأ ما تستقبل به مولودة، بكاء وعويل، وصراخ وأسى، وعتاب لله لماذا يا الهي بنت.. لماذا لم تكن ولدا، وافاقت أمي وتأملت وجهي، وبكت قائلة: “وقبيحة أيضاً يا ربي”.

كنت ثالثة البنات لأبي، وأبي رجل يكسب خبزه يعرق جبينه، كان له في قرية يدادون التي ولدت فيها، والتي تبعد مسيرة نصف ساعة عن بيروت صالون حلاقة وسيارتا أجرة، وكان ينفق الدخل كله علينا.

فيوفر لنا ما يستطيع توفيره من أسباب الرغد والمتعة، وقد تقدمت الأعوام لأصبح فرضاً قائماً، وحقيقة مرة، فماذا كانت أمي تستطيع أن تفعل بي.. تقتلني مثلاً؟ ولاحساسي بأنني إنسانة معزوف عنها، بدأت الفت النظر الي.. وبدأت أعكس عدم الرضا عني الى سخط على من حولي، وعفرته!

أصب الماء على الجيران، أختار لاذاي عجوزاً لا يستطيع ان يجري خلفي، وهكذا، وكان الناس يشكون لأمي، ولكن اية علقة لم تكن تردعني، وفر الجيران، عزلوا!

لا فائدة من ضرب هذه الشيطانة، اذن لتسلك معها سلوكاً آخر!

هكذا قرر أبي الذي بدأ يحنو علي لكثرة ما أوذيت، وبعثت بي الى مدرسة الجيزويت في بيروت، ولم أستطع أن أتخلى عن العفرتة بين يوم وليلة، ولهذا كانت مدرساتي يضعنني في أول مقعهد من الفصل حتى يضمن مراقبتي، وسكوتي..

على أنهن اغدقن على حنانا وحبا انسياني قسوتي، وكم للحنان من سحر على النفوس ليت الناس يعرفون ان الحب خير علاج للناس وان كان لا يشير به طبيب، ولا يباع في صيدلية!

وعندما بدأت اعرف المرح، والسعادة دفعت الاقدار بشحنة حزن الى طريق حياتي، كان لي أخ، كان جميلا كالاطفال في لوحات ميكل انجلو، والكلمات المعدودة التي عرفها في عمره المبكر كانت شهدا حين يقولها ويلنغ فيها لسانه، واصيب اخي بداء في المصارين وعرف الفراش اياماً وليالي وأشهرا.. كان من فرط الحمى يغمض عينيه، ولكنه يعرف كل قادم من وقع اقدامه، من حفيف صوته اذا همس، فيناديه باسمه، ويحدثه، وكان بيني وبينه حب كبير، فقد كان الوحيد الذي لا يعرف أنني مكروهة لأنني ثالثة البنات، وكان ينظر الى شقاوتي على انها مطمحة ومناء اذا غادر الفراش.

وشفى أخي وخرجت به الى الحديقة، وكان الجو باردا، ولكنه لم يحس به، احس به عندما عاد الى فراشه وانتابته حمى، وجاء الطبيب وقال التهاب ولوي، وفي ايام، ايام معدودات، انتقل فيها اخي من سيئ الى أسوأ، وانتقل بعد هذا الى رحمة الله.

وبكيته من قلبي، وعرفت لوعة الفراق.. رجل احبه مد يده لينتشلني من الاحزان، عمى.. اسمه اسعد فغالي، وقد كان زجالاً معروفاً وكانت الصحف تسميه “شحرور الوادي” لكثرة ما تردد المغنيات والمغنون ما يكتب، كان يأخذني معه الى السينما وينتصر لي في البيت.

وفي السينما سمعت ليلى مراد تغني، وغنيت اقلدها، وسمعني عمي، فقبلني بحبور وفرح، وغنيت في المدرسة فصرت مطربتها بلا منازع، وذهب صديق لعمي يقول لأبي: لماذا لا تدع صباح تغني؟ وقال الصديق وكان اسمه عيسى النحاس: لماذا لا تدعها تغني وتختار لها الحفلات الحفلات اللائقة بالتقاليد؟ وناقشهما ابي في رأيه، وأيد الاتجاه عمي لأنه كثيراً ما كان يرى دموعي على خدي لأنني محرومة من أن اغني، واستغرقت المسألة عدة أشهر بين رفض وقبول ولا ونعم، حتى اقامت نقابة الصحفيين اللبنانيين حفلة، واقتنع ابي بأن الغناء في هذه الحفلة أمر لن يشير نقداً، فوافق وذهب معي، وطرب وفرح، وحملني بين ذراعيه ليقبلني.

نعم.. فقد كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما غنيت للجماهير لأول مرة.

وسمع بي وسمعني قيصر يونس وكيل السيدة اسيا في بيروت، فأرسل صورتي الى السيدة اسيا مع عبارات طيبة، شهد لي فيها بجمال الصوت والصورة، أقول الصورة وأنا في دهشة، أمي ايضا كانت في دهشة لانها كانت تعتبرني “قبيحة” اذ انا طفلة ولكن مرور الاعوام اضفى علي جمالاً ونضارة وحسنا لم يكن في الحسبان!

وسأختصر الكثير من الظروف والملابسات والاشواك في طريقي لاقول ان المحاولة التي حاولها قيصر يونس قد كللت بالنجاح، فطرت الى القاهرة ولما اكمل السادسة عشرة، وقمت ببطولة فيلم “القلب له واحد” وما ان انتهيت من الفيلم حتى عدت الى المدرسة لأكمل تعليمي، وقد استقبلتني الراهبات بتحفظ شديد، وسألتني في تزمت، هل قبلت احد وانت تمثلين؟ وفرحن لما اجبتهن بالنفي، وعاهدتهن على الا يقبلني احد.. وحنثت بالعهد!