نعيمة عاكف: كدت اصبح شهيدة لقمة العيش!

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

حياتي الأولى كانت مملوءة بالأشواك التي لا يقدر سواي على السير عليها وتحمل وخزها، لذا بدا لي ان اعمل وأنا ادون قصة حياتي، هذه الحقبة الطويلة من عمري، تلك الحقبة التي قضيتها مغمورة، شريدة، أكسب قوت يومي بعرق غزير..!
أنا من مواليد 7 اكتوبر عام 1930، رأيت النور في حارة متفرعة من باب الخلق بجوار “البوستة” وقد استقبل أهلي مولدي اسوأ استقبال وكادوا – لو كانت لديهم الشجاعة وقتذاك- ان يخمدوا انفاسي ويستريحوا من زيادة متاعبهم..

قصة حياتي نعيمة عاكف

كانت أمي تطمع في “ولد” وكان أبي يشاركها هذا الطمع، ولعله الشيء الوحيد الذي شاءت الظروف ان يتفقا عليه، فقد كانا دائمي الخلاف، دائمي الشجار لا تكاد تمضي ليلة دون ان يتعاركا لاتفه الأسباب، فكانت أمي قد ضاقت ذرعاً بالبنات بعد ان انجبت منهن ثلاثا قبلي وجاء مولدي فختم الرغبة التي كانت تجيش في صدر أمي!..

بدأت في السيرك

وانا سليلة اسرة “عريقة” في الرياضة والعاب “البهلوانية” فقد كانت أمي “اشطر” بهلوانة وكذلك كان أبي وجدتي وجدي وشقيقاتي جميعهم برعوا في الألعاب البهلوانية، وكان لنا اكثر من “سير” يحمل اسماء أفراد الأسرة.
ولم تكن السينما قد انتشرت بعد، ولم يكن أهل الريف يعرفون عن السينما الا اسمها، فكان “السيرك” هو مسلاتهم الوحيدة، ولهذا كنا نقابل احسن مقابلة وكنا نربح المال الوفير من مهنتنا الشاقة هذه. ولا ادري كيف تعلمت “البهلوانية” ولا فنون الرياضة العنيفة التي مارستها ردحاً طويلاً من طفولتي.. نعم، انني لا أدري كيف تعلمت، ولكن الذي اعرفه جيداً انني وانا في سن الثالثة أو الرابعة من عمري كنت اظهر أمام الجمهور في الارياف، واغني لهم وارقص و”اتشقلب” وكنت اقابل بعاصفة قوية من التصفيق، واذكر ايضاً ان هذا النجاح الذي كنت المسه عند ظهوري أمام جمهور الفلاحين قد حفزني الى ان ادخل على أبي واقول له بجد وانفعال: – شايف النجاح، انا محبوبة من الناس.. لهذا اطلب منك ان تحدد لي مرتباً، اريد اجراً، والا فسأبحث عن سيرك آخر اعمل به وكان رد أبي على مطلبي “علقة” ساخنة ثم قذف بي الى فراشي وهو يقول: “والله عال على اطفال الأيام دي..”! ولم أشأ ان ادع الأمر يمر فكان ان جمعت ملابسي القليلة في “بقجة” وخرجت من “السيرك” لا ألوى على شيء..

وحدي في طريق الحياة

كان عمري اربع سنوات، ولم أكن اعرف الى أين المسير حتى قابلني بعض زبائن “السيرك” وعرفوا انني هاربة فحملوني على اكتافهم وعادوا بي الى السيرك..

وعندئذ، وازاء “تهديدي” هذا، قرر أبي ان يخصص لي يومية قدرها “قرشان” إذا كانت حالة السيرك “معدن” وقرش صاغ في أيام “البطالة”.. وما كان اكثرها.. في بعض المواسم!..

ومرت الأيام ونحن نتنقل من بلد الى بلد.. ومن قرية الى قرية.. وكنت اسمع واشاهد “المشاجرات” التي لا تنتهي بين أبي وأمي..

كان أبي محبا للميسر.. لا يترك طاولة اللعب الا ليذهب لاداء عمله في السيرك، ثم يعود اليها بعد انتهاء العمل.. وذات ليلة، وبعد ان انتهينا من اداء ادوارنا في السيرك، شاهدنا عراكاً وشجاراً، ورجال البوليس يحيطون بالسيرك ومعهم بعض “الأفندية” وكان “الأفندية” محضرين جاءوا للحجز على “السيرك” فقد راهن ابي “بالسيرك” ومعداته وآلاته.. والعاملين به..!
جمعت أمي حاجياتنا.. وتركنا “السيرك” المحجوز عليه ورجعنا الى القاهرة.. وكان عمري وقتذاك.. ست سنوات..

أيام عجاف..

ومرت علينا أيام سود، لم نكن نجد فيها العيش الحاف، وكانت أمي تبكي حظها التعس ومضت الأيام تحمل البؤس والتشرد والجوع.. حتى كبرت وكبر اخوتي..

وكانت أمي ترفض عروضاً للعمل في “الصالات” لانها تحتم على “الفتيات” أن “يفتحن” .. وكانت تعتبر ان “الفتح” آفة يجب ان تتجنبها الفتيات.

وذات يوم.. قالوا لنا ان “علي الكسار” لا يحتم “الفتح” فعملنا عنده.. بمرتب شهري قدره اثنا عشر جنيها للفرقة كلها، المكونة من اخوتي الثلاثة وأمي وأنا..!

مع بديعة..

وسمعت بنا السيدة بديعة مصابني، وسمعت اننا نلاقي تشجيعاً واقبالاً.. فدعتنا للعمل في صالتها مقابل خمسة عشر جنيها، وفرحنا بهذه “العلاوة” ومازلت اذكر الاحساس الرهيب الذي احسست به وانا اظهر لأول مرة أمام جمهور “بديعة مصابني” لقد خيل الي انني سأقع على هذا الجمهور وانني سارتطم به، وانني سأحمل شهيدة “لقمة العيش”.
ولكن حدث غير ما توقعت، فقد ادينا “النمرة” باعجاز وصفق الناس لنا كثيراً..

وكانت “بديعة مصابني” قد ضمتنا الى فرقتها من باب “جبر الخاطر” ليس الا.. فهي لا يهمها هذا اللون الذي كنا نقدمه.. خاصة انه كان لديها وقتذاك فرقة “اجنبية” من البهلوانات.. ولكننا استأثرنا بحب الجمهور لمصريتنا، ومع ذلك فان السيدة بديعة مصابني لم تخصص لنا “وقتاً” ملائماً لاداء “اللعبة”.. بل جعلت وقتنا خلال “تسالي” الجمهور وتناوله المرطبات.. اي في الاستراحة. ومع ذلك فقد نجحنا.. وكنت احس ان الجمهور يحبس انفاسه خوفاً علينا من السقوط وذات ليلة قالت لنا السيدة بديعة.. ان الملابس التي نظهر بها “حشمة” اكثر من اللازم وثارت أمي وتركنا المسرح غاضبين.

وعدنا الى الجوع.. نقاسيه ونعانيه.. ثم انتهى بنا المطاف مرة أخرى.. عند علي الكسار ورأينا ان نقوم برحلات الى الأقاليم.. وقوبلنا احسن مقابلة وجمعنا مالاً وفيراً.. اغنانا عن السؤال.

وتعلمت خلال رحلاتي.. الرقص.. والقفز.. و… والقاء المونولجات. ووجدت باب الاذاعة مفتوحاً، فدخلته لالقي بعض المونولوجات وكان هذا بالنسبة لي فتحا مبينا.. ومضت الأيام.. وتحولت دفة حياتي.. الى “الكحلاوي” حيث عملت معه فترة من الوقت.. ودارت بي عجلة الزمن حتى استقرت عند “ببا” وارتفع مرتبي الى خمسة وعشرين جنيها في الشهر.. وكان هذا المبلغ بالنسبة لي “ثروة” دونها ثروة “قارون”

وعند “ببا” تعرفت بسعاد مكاوي واصبحنا صديقتين حميمتين..

سيارة جديدة

ثم تحول مجرى حياتي نهائيا.. فقد كانت “هاجر حمدي” صديقة لسعاد مكاوي..

وجاءت “هاجر” ذات يوم تقود سيارة جديدة اشترتها.. وقالت سعاد.. هيا بنا نتنزه.. حتى الهرم بهذه السيارة الجديدة.. وذهبت معهما..

وفي الطريق الى “الهرم”.. عرجت السيارة الجديدة على “ستديو الاهرام” ودخلت “هاجر” وتركتني في السيارة.. وطال انتظاري فتركت السيارة لابحث عنها في “البلاتو” وإذا بي افاجأ برؤية الاستاذ حسين فوزي ولم اكن اعرفه بعد..

التقيت معه صدفة

وامسك بي حسين وقدمني الى مسيو “نحاس”.. وتحدثنا سوياً وسمعت الاستاذ حسين فوزي يقول: “سأجربها”.. واجرى لي تجارب.. ونجحت فيها.

وكان ان تعاقد معي بمبلغ 250 جنيها مقابل الظهور بطلة.. “كده خبط لزق” في فيلم “العيش والملح”.. وامسكت بالثروة في يدي، الثروة التي عشت احلم بها!

وكان ان اديت عملي في “العيش والملح” وأنا في حالة معنوية قوية.. فنجحت.. ونجح الفيلم..

وجاءت الثروة 500 جنيه تسلمتها بيدي مكافأة لي على نجاحي ونجاح الفيلم واحسست انا التي ذقت الحرمان والجوع ان السماء قد فتحت لي ابوابها وامضيت عقوداً لخمسة أفلام اقوم بادوار البطولة فيها.. ووصل اجري فيها الى 3000 جنيه عن كل فيلم!

قفزة الى المجد! وذاعت شهرتي..

وسجل التاريخ.. في صفحات الفن.. ان فتاة مغمورة من فتيات “السيرك” الريفي المتنقل بين القرى والدروب.. قد اصبحت اليوم نجمة سينمائية لها ميزات ولها مواهب فهي تغني وترقص عربي وافرنكي وتمثل وتلقى مونولوجات وتلقيت الدعوات للظهور على مسارح الأقطار الشقيقة.. لقد طارت شهرتي الى هناك ويشاء الحظ السعيد ان انال هناك من المجد ما نلته في مصر..

هل؟

ولكم كنت معجبة “ببتي هاتون” وكنت اعتبرها مثلي الأعلى، فهل اصبحت مثلها، وهل اشرفت على مكانتها؟!
هذا ما أسأل به نفسي كل ليلة..؟

لقد احسست انني فقيرة في العلم بعد ان دانت لي الشهرة.. ودان لي المال.. ولكي اكون مثل “بيتي هاتون” يجب ان اتعلم..

ولقد كانت ظروف “السيرك” تمنعني من الاستقرار في “كتاب أو مدرسة.. أما اليوم.. فانا حرة نفسي فيجب اذن ان اتعلم..

وهأنذا اتلقى الدروس في العربية والانجليزية والفرنسية.. واقود سيارة لم أجرؤ في احلامي على تخيلها..

وهأنذا اتكلم الان باللغات الثلاث.. وهأذنا اقرأ رصيدي في البنوك بعين الدهشة وهأنذا اسجد لله شكرا وعرفانا بالجميل.. لأنه ارسل الي مخرجاً.. فهمني واكتشفتي وكان ان خرجت على يديه من الظلمات الى النور.. ثم الى عش الزوجية الهانئ السعيد!