نفط كركوك استخدم في بناء بابل قبل آلاف السنين

د. مصطفى جواد/

كان نفط كركوك معروفاً منذ الأزمنة القديمة في التاريخ فقد ذكر استرابون الجغرافي اليوناني (85ق-25ب) في جغرافيته ان في بلاد بابل كثيراً كثيراً من الاسفلت Asphalte وصفه ايراتوستين Eratosthene (276ق م) قائلاً (الاسفلت المائع الذي يسمى النفط Naphte يؤتى به من سوسيان والاسفلت الجاف الممكن جموده يؤتى به من بلاد بابل.
ان عين الاسفلت الجاف قريبة من الفرات فاذا ربا النهر من ذوبان ما في السحاب ربت العين وصبت في الفرات، فيتكون الاسفلت قطعاً كبيرة تستعمل للعمارة بالآجر “الطابوق”، وجماعة من الباحثين يدعون انه يوجد الاسفلت المائع في بلاد بابل.
ويقال ان سفناً من حصر الخيزران تكون قوية اذا طليت بالاسفلت، أما الاسفلت المائع اي النفط فانه يجذب النار اذا ادنيت منه وإذا قرب من النار جسم قد غمس في ذلك الاسفلت فانه يلتهب ولا يمكن اطفاؤه بالماء ابداً فهو يزيد في قوة التهابه ولا يقدر على اطفائه الا بالليمون والشب والغراء.
وقد حكي ان الاسكندر أراد ان يجرب ذلك فأمر بان يسكب من ذلك الاسفلت في حوض كان فيه صبي، ثم قرب منه ناراً، فسرعان ما أحاط اللهب بالصبي وكاد يهلك لولا ان الحاضرين دخلوا مباشرة في الأمر بقوة الماء ومقاومة احتدام النار، وعلى حسب ما ذكر (بوزيدونيس Posidonius (135-50ق.م) كان يوجد في بلاد بابل نوعان من النفوطات احدهما يخرج نفطاً أبيض والآخر يخرج نفطاً أسود، فالأول يحتوي على كبريت مائع فهو لذلك يشتعل والثاني يستعمل للمصابيح بدلاً من الزيت.
وذكر “آمين مارسل” في القرن الرابع للميلاد فقال: انه يوجد الاسفلت على مقربة من بحيرة “سوسنجيتا” وتغوص دجلة في تلك البحيرة ثم تظهر بعد ان تجري مدة طويلة تحت الأرض، وهناك ايضاً يوجد النفط وهو نوع من القطران يشبه الاسفلت، فاذا وقف عليه طائر لحظة هلك في الحال ولا يستطيع الطيران منه، وهذا النوع من المائع اذا اتقد فلا يطفأ إلا بالرمل، وفي هذه البلاد نفسها هوة يرتفع منها غاز مهلك برائحة قوية تقتل كل حيوان يدنو من الهوة وهي نوع من الآبار العميقة، فاذا انتشرت بين اكثر الجماعات فلن تخطئ ان تجعل ما حول البناية غير مسكون، وقد ورد التوكيد بوجود لهذه الهوة في هيرابوليس Herapolice والدهن الميدي الذي كان يستعمل لتغطيس السهام كان يعد مع دهن النفط، ان السهم المغموس في هذا المزيج، ان لم يرم به سريعاً، يحرق كل ما يمسه ولهبه لا يطفأ الا بالرمل”.
وذكر استرابون نفاطة كركوك اي معدن نفطها قبل ان تسمى هذا الاسم قال في وصف تلك الجهات (وبعد مدينة اربلس “أربيل” وجبل نيقاطوريم يرى نهر كابرس “الزاب الصغير” على المسافة التي يقع منها نهر ليكس “الزاب الكبير”، ان الصقع هذا يسمى “اربلس” وفيما جاور اربلس ترى مدينة “ديمترياس” ثم عين النفط “كركوك” وبيرس “النيران” وهيكل أنيا “ديان” وسدراكس وقصر داريس “دارا” ابن هستاسب والكيباريسن “غابة النيران”.
وفي اوآخر القرن الرابع للهجرة كان معدن النفط بكركوك من المنابع المهمة فقط ذكر عمرو بن متي في أخبار “بطاركة كرسي المشرق” من كتاب المجدل ان الجاثليق “يوانيس” رئيس النصارى النسطورية في الشرق كان اول نشأته يتيماً فكفله خال أمه فلما كبر صار يبيع البقل بكرخ جدان “وكانت قرب كركوك” ثم صار يجلب النفط من المعدن على بهيم اشتراه ثم آل أمره الى ان صار بطركاً سنة (391هـ) على عهد الخليفة القادر بالله العباسي، ولكونه من أهل كرخ جدان ونقله النفط من المعدن لا نشك في انه كان يشتريه أو يأخذه بنفسه من كركوك الحالية وكانت تسمى في ذلك العصر “كرخيني”.
ويذكر نفط كركوك الرحالة العظيم “كارستن نيبور” في رحلته المشهورة وقد رأى كركوك سنة (1180هـ -1766م) وقال فيه “على مقربة من كركوك منبع للقار والنفط وفي المنبع موضع يسمى “بابا كركر” فيه ما يدعو الى الاستغراب فأرضه حارة حرارة يمكن ان يقلي عليها البيض واللحم، وليس في اتيان ذلك غير ان يحفر الانسان حفيرة وينصب القدر عليها، وقد ذكر لي ناس كثير، هم على ثقة مما يقولون، انهم رأوا اللهب يتصاعد من ذلك الموضع وانهم طالما خرجوا اليه فشاهدوه” ولم يستطع ينبور ان يراه هو نفسه ولكن السفر أعجله.