ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
حديث كالهمس، وكأنه يخشى على حديثه من نفسه!
وفي نظراته خيوط من صفاء تريد منك ان تنسى كل شيء لتؤمن فقط بقوة النظرات وتثق بشخصية صاحبها، ووجه يحمل هموم الخامسة والستين، وما زال في وداعة الطفل.
كتلة ألوان متناقضة تلد دراستها: الحذر في الاطمئنان والصراحة في الغموض، والقسوة في خلق دبلوماسي!
مجموعة سياسية يحملها انسان.. سرّه في أعصابه!
هي عند العراق: عربية.. عالمية! وعند الغرب: عالمية.. عراقية!
وصنعتها: رئاسة وزراء العراق.. في الحكم وخارج الحكم!
على شرفة احد منازل “عالية” في لبنان، جلس داهية العراق يرقب مواكب السيارات القادمة من بيروت وهي تلتوي مع الجبال الشاخمصة فتسابق الريح، لتنقل في جوفها آلاف المصطافين والزائرين.
واحسست ان في نفس نوري السعيد رغبة ملحة في الصمت، لا يريد ان يتكلم وان تكلم فلا يريد ان يكون حديثه في السياسة انه هنا وحده، يعيش مع ذكريات الأمس ومشروعات المستقبل، أما الحاضر..
وفجأة رن الجرس الخارجي، وفتح الباب عن شخص يسأل الخادم في لهفة، دولة الباشا موجود؟ فيقال له: لا، الباشا مسافر، ويغلق الباب..
ويبتسم نوري السعيد..
وقبل ان يعاود صمته المطبق، الذي لم يرده ان ينتهي، سمعت نفسي أقول له:
– ليس غريباً ان يبحث الناس عنك او تحاول الصحافة ان تظفر بك، فأنت في نظر الناس والصحافة والمجتمع السياسي اسطورة من الألغاز والأحاجي، كلها غموض وكلها اسرار، والشاطر، الذي يكشف لنفسه هذه الأسطورة او يحل ألغازها المطبقة..
وكان هذا القول كفيلاً بان يجعل نوري السعيد يتكلم.
لقد صحا فجأة من حلمه الطويل، والتفت الي في هدوء ليقول:
– لست مسؤولاً عن آراء الناس في شخص نوري السعيد، ولكنني في طبعي وطبيعتي وخلقي السياسي، ابعد الناس عن هذه الصفات الغريبة التي تحمل معاني الغمضو والدهاء والسر الدفين..؟
واستطرد نوري السعيد يقول:
– لو قدر لي يوما ان احاضر في الصفات المثالية للرجل السياسي في الشرق، لرأى الناس ان صفات الأساطير والأحاجي والألغاز، “ليس لها في قاموسي السياسي مكان”؟
قلت له:
– ومن غيرك يستطيع ان يبحث في هذه الموضوعات، انك سياسي مخضرم عركت السياسة وعركتك اسرارها، فعشت بها ولها نيفاً وثلاثين عاما في هبوط وصعود، وثورات وحروب وانقلابات، مرة الى كرسي الحكم، ومرات الى خارج البلاد، وانت كما انت تحبس الغصة وتنتظر الفرصة، وتؤلف الوزارات.
فهلا تكلمت الان؟ هلا تحدثت الى “آخر ساعة” وحملتها رسالتك الى رجال السياسة في الشرق العربي؟ لقد اصبحت السياسة عند العرب هواية يعشقها كل انسان واصبح الزعماء أكثر عددا من افراد الشعوب فلماذا لا تتكلم؟ لماذا لا تقول لهم –وأنت السياسي الناجح.
– ان السياسة فن، له حرمته وله قدسيته، وله مؤهلاته وشروطه؟ حدثهم عن هذا الفن وعن هذه المؤهلات وعن تلك الشروط، تكلم!
وراح نوري السعيد باشا يتكلم..
الوصية الاولى
اسأل نفسك: لماذا اريد ان اكون سياسياً ؟!
قبل ان تكون سياسيا، سل نفسك لماذا تريد ان تكون سياسياً، حدد اهدافك ومشروعاتك وادرس نواحي طاقتك على تحقيق هذه الاهداف والمشروعات، على السياسي واجبات تفوق حقوقه كمواطن، فهل فكرت في هذه الواجبات، السياسي مسؤول لرفع مستوى بلده ومعالجة قضاياه.
مسؤول عن اختيار المجالس النيابية وممارسة حقه الطبيعي في هذا السبيل، ان العمل السياسي خاضع لقدرة الانسان على ممارسته، فهل درست طاقتك؟ لتضمن نجاحك!!
لا يكفي ان يقول الناس عنك انك سياسي، بل عليك ان تضمن جوابك للناس ان تساءلوا:
ماذا يشغلك كسياسي؟ ما هي امالك؟ أين جهودك؟ اين رأيك وصوتك؟ اين وسائلك لخدمة وطنك وامتك؟ أين منهاجك؟
الوصية الثانية
كن طموحاً.. من اجل بلدك!
لا نجاح لرجل السياسة ان لم يكن طموحاً، اقول الطموح ولا أقول الانانية وانادي بالتحفز وتبني الآمال الواسعة والتطلع الى المستقبل بعزم وثقة واطمئنان لا يكفي لان تقضي عمرك عضوا في حزب او وزيراً في وزارة، لماذا لا تكون انت زعيم الحزب، ورئيس الوزارة؟ يجب ان لا يغريك او يعزيك وضع بلدك على ماهو عليه، بل يجب ان يكون لديك الطموح لتعمل على توسيع رفعة بلدك، على زيادة موارده، على رفع مستواه، على قبوله المكان الاسمى بين الدول في العالم..
ان الطموح عامل اساسي في حياة كل سياسي ناجح.. طموح ذاتي، وطموح عام لخير البلد، وخير العالم وخير الانسانية.
الوصية الثالثة
كن مضحياً مثل وزراء الانكليز!
ان حياة السياسة كلها تضحيات، والسياسي الناجح هو الذي يرضى بان يضحي بكل شيء في سبيل مبدأ، او حزب، او وطن!
في بلد كبريطانيا يتقاضى المحامي اضعاف اضعاف المرتب الذي يعطى لوزير، ومع ذلك يدخل الانجليزي الوزارة عن طيب خاطر مضحياً بالمال.
ان حياة السياسة، وحياة الحكم، تحرمان السياسي من عضوية الشركات، من الاعمال الحرة من ميادين الاقتصاد من حياة الراحة والدعة وهدوء البال، من التمتع بالأمن والطمأنينة والسلامة احياناً.. من رعاية اهله واولاده واقربائه، من ممارسة حقوقه في الاعتناء بصحته واعصابه.
من تغذية روحه بتيارات العلم والأدب، والسياسي الناجح هو الذي يضحى بكل هؤلاء، في سبيل نجاحه كسياسي محترم..
الوصية الرابعة:
كن صريحاً ولا تكذب!
وعبس السياسي الثعلب وهو يقول: نعم، اقول هذا وأؤكده، والرأي القائل بان السياسة كذب وتملق ونفاق رأي ضعيف، ليس منصفات الناجحين، السياسي الناجح هو السياسي الصريح الذي يستطيع ان يجاهر برأيه ولو كلفه ذلك تحمل الوان الأذى والضيم والعذاب..!
السياسي الناجح هو من يقول لا، ويعني بها لا، ويقول نعم، ويعني بها نعم.
اما الغموض والبلبلة والكذب فليست من صفات السياسة، ولا من صفات الرجال!
الوصية الخامسة
كن بنّاءً ولا تتذمر!
ويقول “السياسي”، نوري السعيد، السياسة السلبية، سهلة، في استطاعة كل انسان ان يمارسها، اما سياسة الايجاب فهي محك الساسة الناجحين!
لا يكفي ان تقول لا.. لا أريد..
بل عليك ان تحمل معول الهدم، بل عليك ان تعمل للبناء والانشاء، لا يكفي ان تلغي وتنسف وتعارض وتنتقد، بل عليك ان ت بادر الى ضع الأسس الى بناء
شيء آخر مكانه..
الوصية السادسة
لا تكن من فئران السفينة!
لا مكان في سفينة السياسة الناجحة، لما يسمونهم بفئران السفينة، اذا غرقت هي، هربوا هم، ان الربان الناجح من يتحمل مسؤولية سفينته، ويسير بها الى شاطئ السلامة، ويذلل ما يعترضها من امواج ورياح واعاصير، ويسهر على سلامة ركابها، ويتجه بها نحو مواطئ السلام.. ويبذل في سبيل ضمان سيرها كل جهد وخبرة وذكاء!
فاذا تعرضت للفرق، كان آخر من يتركها وقد يفرق معها.
ان الشعور بالمسؤولية وتحملها شيء ضروري، شيء عظيم في حياة السفينة.
كن منتجاً
ان الشرق غني بمجهولاته، فقير بانتاجه، في بطون ارضه، تكمن الخيرات وعلى سطح ارضه يدب الجوع والعراء والجهل والمرض، ان العرب بحاجة الى السياسي “المنتج” الذي يعمل على زياة كفاءات البلاد اقتصادياً ومالياً، والبلد الغني اكثر توفيقاً في سياسته، من البلد الفقير، الاخير يدفع اهله لاحتراف السياسة تأبطاً وتخبطاً والأولى ان يشغل اهله بمشروعات النور والخير والحياة، ويترك السياسة لأصحابها، نريد سياسياً منتجاً في بلاد فقيرة، نريدها ان تصبح غدا غنية، ويصمت نوري السعيد قليلاً ثم يقول:
الوصية العاشرة أمنية:
فكر في وطنك قبل تفكيرك بحزبك!
هل أخبرك عن الوصية العاشرة، انها أمنية وليست وصية، امنية اعيش بها وأرجو الله ان يحققها لهذا الشرق العزيز، فليس على الله بكثير ان يهب العرب ساسة يفكرون في وطنهم قبل ان يفكروا في انفسهم ويؤمنون بأمتهم قبل ان يؤمنوا بأحزابهم واشخاصهم، لو عرف العرب منزلتهم في العالم، وادركوا حاجة الأمم اليهم وقدروا اهمية الدور الذي باستطاعتهم ان يمثلوه على المسرح السياسي لكان لهم اليوم شأن آخر ومنزلة اخرى، ولكن، أين من يوجه، ويخلص في التوجيه؟ اين من ينصح ويصدق في النصح، ان وضع العرب اليوم لا يبشر بخير، وضع كله استكانة وضعف وعدم مبالاة وضع لا تنفع فيه مشروعات الإعانات والإغاثات و”النقطة الرابعة” والخامسة والعاشرة، وفروض امريكا وهبات هيئة الأمم فقبل ان نشق الطرق ونبني الجسور ونجفف المستنقعات علينا ان نبني الأخلاق ونجفف الضغائن، وننسى النفوس، ومرة اخرى، سكت نوري السعيد وراح الفكر الذي لا يهدأ يسرح في خيال جديد، ومازالت عيناه الزائفتان تحدقان في الأفق الواسع فتمران ببصرهما على مواكب السيارات وهي تلتوي من جبال لبنان الشامخة.
ناصر الدين النشاشيبي
آخر ساعة 1952