هل يمكن الشفاء من مرض الطائفية

أحمد الشيخ ماجد/

لا تجد الطائفيّة نفسَها في المجال العام وفي السلوك الاجتماعي من دون تمثيل سياسي يوظفها لمصالحه وبقائه متحكّماً في السُلطة والنفوذ والمنابع الاقتصادية.

قد يقول قائل: ماذا عن النصوص المذهبيّة التي توظّف طائفياً؟

الحقيقة أن من يريد أن يفهم الانقسام الطائفي من خلال الخلافات التأريخية العقائدية «يبدأ من المكان الخطأ لأنه لا يصل إلى نتائج تساعده في فهم ظواهر اجتماعية سياسية مثل الطائفة، والطائفية، والطائفية السياسية»، كما يرى أحد الباحثين العرب، بمعنى أن المذهب ليس طائفياً والدين كذلك، لأن الدين والمذهب لا يمارَسان إلا في جماعة، وهذه حقوق مشروعة لكل البشر، لكن الطائفيّة تبدأ حين يتمّ استخدام النصوص والطقوس في التعبئة والتحشيد السياسي لصالح جماعة منبثقة من مذهب معيّن.

الطائفية سياسية بالضرورة

ببساطة، لم تخرج داعش وجماعاتها من سُبات تأريخي عميق، قرأت نصوص ابن تيمية وابن عبد الوهاب والأحكام الفقهية للأسلاف وقررت إنشاء دولة تمتد من العراق والشام تعتمد على دعم نفسها ذاتياً في القيام والتوسع وخرجت بكل هذه الإمكانات. هذا برأيي هذيان محض، فهناك دعم دولي وتأسيس متعمّد. كذلك الطائفيّة لا تنطلق من محبسها الطقوسي والعقائدي إلا بعد ان يُقرر لها أن تتوهج في أروقة السياسة، وفي شتى الطرق، تأتي مرّة عبر استنهاض الغبن التأريخي، واستذكار الصراع العقائدي، واُخرى في طقسنة المذاهب، وتحويل سلوكياته إلى ممارسات عدائيّة تمس الطرف الآخر وتنتهك مقدساته.

في العراق، ليس كل قادة الطوائف متديّنين، وليس كلّهم مؤمنين بمذاهبهم حرفياً، إنما تتحوَّل الجماعة الطائفية بالنسبة لهم إلى هويّة يمرّون بها إلى مؤسسات الدولة والمناصب التنفيذية والتشريعية، فلا يهم في النظام الطائفي أن تكون حاملاً لشهادة الدكتوراه في الطب والاقتصاد والكيمياء والسياسة والاجتماع..الخ. بقدر ما تكون حاملاً لهموم المذهب وحامياً لحدوده المعنويّة والجغرافية، مصراً على حضوره بكل أنساق الحياة ومنعطفاتها السياسيّة والاجتماعية والدينية، والأهم هو أنك لا تملك عقلاً سياسياً مستقلاً، إنما تتحرّك ضمن مخيال الجماعة التي تنتمي لها.

شرعية الطائفية!

في النظام المحاصصاتي في العراق مثلاً أنت كمسؤول لا تجتهد وتكون ذا عقل سياسي فذ، ولا يكون عملك للدولة وبنائها وتقويم كيانها المؤسساتي والخدمي، إنما لإرضاء مزاج الطائفة لأنها رأسمال رمزي وانتخابي بالنسبة لك، وبالطبع؛ لا تفهم الطائفة معنى المصالح العامّة، لأنها غارقة بالخصومة وإثبات الحق والباطل!

لا يجد النظام المحاصصاتي في العراق أية شرعيّة من دون منطق الطوائف وصراعها المحموم. ومع تراكم الفشل وأزمة الهوية السياسيّة للدولة، جاء هذا النظام مكملاً للفشل في بناء أمة وطنية عراقية تُحل فيها مسألة الدولة وإشكالاتها العميقة منذ 1920. وهي إحدى أسباب الانفجار الاجتماعي ما بعد 2005. وللآن لم تُتخذ خطوة جدّية لإصلاح ما سبق والتوجُّه لبناء دولة وطنيّة كما في البلدان التي مرّت بحروب دينيّة وطائفية فتأتي الدولة الوطنية كنتيجة حتمية لإنهاء الانقسام والحروب.. التدخّل الإقليمي واستدعاؤه هو تجلٍّ واضح لتفاقم الطائفية السياسيّة في نظام المحاصصة، والذي يتمّ من خلاله تحويل التشابه المذهبي إلى تبعيّة سياسيّة عمياء، تغيب فيها الهوية والاندماج عبر الشعور الوطني الطبيعي، والذي أنتج كل هذا التشظي وإحساس الكثير بأنهم مرتبطون عقائدياً ببعض الدول الإقليمية ورموزها في الدين والسياسة، ولأن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم كما يرى كونفشيوس، فإن الانقسام السياسي في العراق تجلّى بأفظع صوره في علاقات المجتمع والحياة اليوميّة في البلاد.

هل الأمر مستحيل؟

ليست هناك استحالة في إنهاء الطائفيّة في العراق وفقاً لما تقدّم، فبمجرّد أن تحصل إرادة سياسيّة ونخبة ناضجة تتبنّى خطاباً وطنياً مسؤولاً سترى أن هذا المرض يتلاشى لأن «الإرادة السياسيّة» ستخلق أجواءً من المصالح المشتركة والاتفاقات المشروعة، وشعوراً بضرورة التعايش وتبنّي المفاهيم الوطنيّة العابرة لمنطق الطوائف مع مؤسسات تحرق مراحل طويلة.. لكنْ هنا سيأتي الواقع بسؤال مهم: ماذا عن الكتل السياسية التي تعتاش على الطائفية؟ سينحسر حضورها تدريجياً ما دامت الإرادة السياسيّة حضرت وتحولت إلى سلوك، وليس هذا الكلام رومانسياً، إنما نماذج الدول وتجاربها تقول هكذا.. ارجعوا لتأريخ أوروبا وحروبها الدينيّة، وماهي مقدماتها للبناء والخلاص من الاحتقان، وكلما مررتم بحقيقة مؤلمة العنوا المحاصصة ومعها كل تديّن سياسي هدم الدول وأحالها إلى فريسة بأيدي تجار الحروب ومدّعي الفضائل!