الفوتغراف: ابتكار التاريخ.. وخلق الماضي

كتابة وتصوير؛ صفاء ذياب /

كيف يمكننا أن نبني لحظتنا التاريخية بمجرد التقاطها؟ تساؤل ربما يدفعنا للبحث عن ماهيات عدة في بنية الكاميرا والصورة الفوتوغرافية، التي تسعى لخلق عوالم موازية من جهة، وابتكار تواريخ لم ننتبه لها في لحظتنا الحالية من جهة أخرى.
يشتغل الفوتوغرافي على تحميل دلالات عدة في الصورة الفوتوغرافية، ربما نستطيع أن نسمي الدلالة الأولى الزمن، والدلالة الثانية المكان، والدلالة الثالثة الحدث. لكن أي زمن وأي مكان وأي حدث! هذا ما علينا أن نفهمه قبل الولوج إلى قراءة أية صورة فوتوغرافية، توثيقية كانت أم فنية. وهنا إذ أفصل بين التوثيقية والفنية، ليس لأن الصورة التوثيقية لا تحمل ملامح فنية، بل لأن الصورة الفنية لها سمات خاصة يختلط فيها الزمان بالمكان وبالحدث.
فكيف يمكن أن نقرأ الصورة الفوتوغرافية؟ فالشاعر لا يمكن أن يطور تقنياته وإمكانياته الإبداعية من دون أن يقرأ قصائده بعين الناقد، لأنه بذلك يسعى للكشف عن مكامن الجمال والضعف في نفسه، البناء الذي يبحث عنه الشاعر والقاص والروائي في نصّه، هو نفسه البناء الذي يشتغل عليه الفوتوغرافي. ومثلما يبني الشاعر قصيدته الطويلة، يبني الفوتوغرافي صورته التي تحمل أكثر من مدلول، القصيدة الطويلة كاللقطة العريضة؛ بالمفهوم السينمائي، يسعى المخرج من خلالها لإعطاء كل تفصيل من تفاصيل المشهد حقّه في الظهور والبروز لكي يكون مشهداً متكاملاً أمام المتلقي، الأمر نفسه حين يشتغل الفوتوغرافي على اللقطة العريضة، التي تحمل تفاصيل كثيرة يحاول إبرازها في مشهد واحد. فيما تشبه القصيدة القصيرة، أو الومضة، اللقطة العميقة للصورة الفوتوغرافية التي تحاول إبراز تفصيل صغير يحمل ملامح كاملة لزمان ومكان وحدث، أشبه بقصيدة (الهايكو).
ومن خلال التعريف الكلاسيكي لقراءة الصورة الفوتوغرافية، الذي يرى أن الصورة محاولة التعرّف على محتويات اللحظة الأساسية والثانوية، والتعرّف على العلاقات التي تربط بين عناصر الصورة بمستوياتها المختلفة، وما يمكن استنتاجه من أبعاد لها، لكن القراءات الحديثة تنظر للصورة الفوتوغرافية على أنها مجموعة من الدلالات ضمن إطار واحد.
الصورة ثقافياً
أولاً لنبدأ بقراءة الكاميرا في الشارع العراقي، فمع أول صورة فوتوغرافية التقطت ببغداد في العام 1850 على يد المصور والرسام ألكسندر زفوبودا (المولود في العام 1826)، مرّ التصوير بمراحل عدة، مراحل من المنظور الاجتماعي أكثر من مراحل تطور الكاميرا. الموانع الدينية كانت عوائق كبيرة أمام المصورين، فقد شبّه بعض رجال الدين؛ وقتها، الصورة الفوتوغرافية بالصنم. إلا أنها مع مرور الزمن دخلت البيوت من أوسع أبوابها. وتحولت الصورة إلى أيقونة تعلّق في البيوت: العائلة، والناس، والشارع، والمشاهد الطبيعية، وكل ما يمكن أن تسرقه عين العدسة من الزمن الذي لا يتوقف. ومن دون شك، كانت العدسة خازنة الحياة، ترسم الوقت مثلما تشاء، وتلون اللحظات بالدهشة.
وإذا لامسنا حياة الصورة، نكتشف أنها لا تختلف كثيراً عن الانتقالات التي مرّت بها المرأة هنا، في العراق. فالمرأة التي منعت من الخروج من بيتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عادت ومزقت النقاب والبرقع مع عشرينيات القرن الماضي، لتلبس (المنيجوب) في الأربعينيات، وحتَّى السبعينيات، لتعود في التسعينيات وترتدي الحجاب، حتى وصلت إلى مطلع القرن الحادي والعشرين ليعود النقاب مجدداً. وهكذا كانت الصورة الفوتوغرافية والعدسة معها؛ ففي الوقت الذي كانت توضع صورة المرأة في البيت جنباً لجنب مع صورة الرجل، وتوضع تحت شاهدتها بعد رحيلها، كُسِّرتْ أولاً مع الشاهدة، ومنعت ثانياً من وضعها في صالة البيت، وحتى في غرف النوم.
ليست المقارنة؛ هنا، إلا لأن تحولات حامل الكاميرا لا تختلف عن تحولات المرأة في العراق، ومن ثم تحولات الصورة الفوتوغرافية. فحينما كان المصور يتجول في شوارع بغداد، كنا نتحلق حوله من أجل أن نظهر في صورة يلتقطها في الأزقة التي كانت تحمينا من أشعة الشمس، لنظهر في آخر الصورة بقعة سوداء صغيرة، نتخيل شعرنا يرفرف معها، النساء لا يمانعن، والرجال يدفعون بأطفالهم ليدوّنوا لحظتهم العابرة. حتى بدأت الناس ترى في المصور فاضحاً لحياتهم الخاصة، ومقتحماً لها. ومن ثم، ومن دون أي سابق إنذار، صار حمل السلاح أسهل من حمل الكاميرا.
ذاكرة الفوتغرافي
تحولات الكاميرا في العراق تشبه إلى حد بعيد تحولات بناء الصورة الفوتوغرافية. فيمكن من خلال أية صورة قراءة الواقع الثقافي والاجتماعي أولاً، وقراءة البنية الثقافية لحامل الكاميرا ثانياً. ربما لا يمكنني هنا أن أتحدث عن صور معينة بتفاصيلها، لكن من الواضح أن هناك مصورين يبحثون عن البنية الثقافية التي كوّنتهم، نجد مثلاً بعض الفوتوغرافيين لا تستهويهم إلا الأماكن المفتوحة، أو المغلقة، وبعضهم لا يبحث إلا عن أطفال مهملين يشكّلون ماضياً مهملاً بالنسبة لهم، وآخرون يبحثون عن تفاصيل دقيقة ربما كانت تمثل هوسهم. التوجهات عديدة، لكنها بالتأكيد مرتبطة بذاكرة وتشكيل الفوتوغرافي منذ أن كان طفلاً وحتى احتراف الفوتوغراف. هذه التشكلات تمثلها الذاكرة الجمعية والبيئة التي خرج منه الفوتوغرافي، لهذا ينحو الفوتوغرافي لاختيار زاويته وموضوعه بحسب ذائقته أولاً، وخبرته ثانياً.