“حمام الدار” للكاتب الكويتي سعود السنعوسي: تأملات في أسطورة قديمة

410

د. زهير ياسين شليبة/
كل شيء هنا يحدث في الماضي! ولهذا يصعب على القارئ فهمه أحياناً. إن غرق الطفلين (رحال) و(زينة)، هو ما يعتمد عليه المضمون والحبكة، لا يزال موجوداً في خزانة الملابس منذ عشرين سنة، يذكره في بداية الرواية ويُطلع القارئ عليه في نهايتها. ص 181
يمهد الكاتب لشخصياته بالتدريج متقصداً الغموض وتوزيع الأوصاف لخلط الأوراق، أو تلميحات قصيرة تعني الكثير في المضمون. فهو مثلاً يذكر جديلتَي الأم فيروز المعلقتين في خزانة الممر،لكن القارئ يفهم مغزاهما في نهاية الرواية فحسب. نفس الأمر بالنسبة لقولها لزوجها “بترتَ أطرافي يا أزرق”، أو عندما يسمي أزرق ابنَه بـ (الأشهل)، نفهم الأمر فيما بعد.
تعتمد بنية الرواية على تأملات الكاتب، إذ تتداخل هنا شخصيته مع السارد والراوي وأبطاله. يبتدع الروائي السنعوسي هنا فضاءً خاصاً بالسارد، كأنه استراحة المحارب، الذي عنونَه: “أثناء ساعة تأمل”. ص 83
تقول (قطنة) لـ (عرزال) “أنت تقولُ أشياءَ غريبةً عرزال!” ص 103 ويطرح على لسانها تبريرات غموض سرديته أو ملاحظاته الأخرى عليها. لا بدّ لي هنا من تسجيل الإعجاب بطريقة الروائي في وصف تفاعل (كاتبه) مع أبطاله، نقرأ هنا قولَ قطنة عن الكاتب: “أغمضَ عينيه اللتين تريان كل شيء. أوغل في تأمله يستحضرُ بعضنا، واحداً تلو آخر. يقلبنا في رأسه ويعيد تكويننا.. إله في أسطورة قديمة. كنت عالقةً فيما يشبه العدم قبل أن يستحضرنا… لا نستفزه لئلا يكتب لنا نهاية بائسة. مؤلفُنا مُوجِدُنا القوي الضعيف الصامت المتورط الدائم في صنعه…”. ص 85
إنه حوار غير تقليدي بين البطلة (قطنة) ومؤلف المخطوط في الكتاب، (صورة الكاتب). إنها شخصية مشتركة بين الراوي والسارد تتحدث عملياً عن طريقة عمل الكاتب: وصفَ موقف الوالد أزرق الناقم على (عبيدة)، وجعلَ (بصيرة) تبصق عليه، حين يتجسد دورها الأليغوري. “أثث المكان بكل تفاصيله، وقدم وصفاً كاملاً له، حيث تتوسط البئر بهوه غير المسقوف… وهنتُ حتى متُّ. تركتُ الفتى. لم يعد لي مكان هنا، فقد استحوذَ أزرق على كل شيء… أنصت إلى حوار بين مؤلفنا والعجوز الباسمة الحزينة. مؤلفنا دامَ حرفه واتسع خياله يحدثها وتجيبه عن كل سؤال، تمنحه فهمنا للنص. التفتت العجوز إلى السلّم.. مع نزول أزرق من السطح. أدار مؤلفنا وجهه… مع التفاتة بصيرة. بدا أزرق كما لو أنه لا يرى بهاء الكاتب وهالته التي تشع… لا يرى سواي. بحلقت فيه بصيرة قبل أن تستجمع نخامَ صدرها، خخخ تِف! … التفتَ مؤلفنا إلى صاحب البيت يصيح به، يا أزرق! لكن أزرق مضى … دون التفات”.
أحاديث وقت الضجر
مقاطع فنية في منتهى الروعة والذكاء للإفصاح عن مكنونات العلاقة بين قطنة ومنوال: “أنا لا أعرف عني إلا ما كتبت يدك… تفكّر مؤلفنا…هذا جيد، مِعزَة حلوة! … قطنة حلوة. يبدو أنه تلقف فكرة في ساعة التأمل هذه… “أنت بيضاء، بيضاء كالقطن … فلنقل إنك أخته، أخت عرزال. الوحيدة، التي تنصتُ إلى أحاديثه وقت الضجر. ولسبب ما كتبك في مذكراته معزة بربرية. ماذا يكون السبب؟ لقد منحت عرزال أكثر من الإنصات، وهذا لا يليق بأختٍ، أنت ابنة عمه أو ابنة خاله، أنت ابنة (العبدة) و(عبدة) بطبيعة الحال”. ص 88
فيروز وعرزال
أخيراً أقولُ: إنَّ عرزال، منوال، أزرق الأب، الأبناء، الزواجل، فيروز الأم التي “قصّت جديلتيها” نذراً لعودَةِ أبنائها لها، التي “غابت مكلومة بغياب حماماتها على غير موعد لقاء”، فيروز الحمامة، منيرة، التوأمين الغريقين، قطنة الإنسانة، قطنة المِعزة، أمها الشرماء فائقة، بصيرة، أزرق البحر، أزرق السماء، البيت العربي القديم والبئر التي تتوسطه، يشكّلون عناصرَ قصيدةٍ شعريةٍ وسردية متنوعة الأصوات والمستويات، وفيلماً سينمائياً، ومقطوعةً موسيقيةً، بل إنها سيمفونية بوليفونية متعددة النغمات، رائعة تُجسّدُ أليغوريا الحياة بكل مباهجها ومآسيها!
* سعود السنعوسي. حمام الدار، أحجية بن أزرق. رواية، طبعة 4، 2018
اعتمدت هذه الطبعة في هذا المقال، وارتأيت أن أكتفي بالإشارة إلى أرقام الصفحات التي اقتبستُ منها المقاطع.
وأنوّهُ هنا بأني قرأتُ (ساق البامبو)، التي أراها تختلف تماماً عن (حمام الدار)، التي حصلتُ عليها قبل فترة قصيرة، أي بعد خمسة أعوام من إصدارها، وأحببتُ أن أكتبَ قراءتي الخاصة لها وانطباعاتي عنها في هذا المقال، التي أردتُ لها أن تكون شخصية، ولهذا تعمدت عدم الاطلاع على ما كُتبَ عنها سابقاً.
*** عرزال: له عدة معانٍ أوردُ هنا أهمها نقلًا عن ويكيبيديا:
كوخ يُتّخذ من أغصان الشجر يثبّت فوق الأشجار أو على مرتفع، موضع يتخذه الناطور في أطراف النخل خوفاً من الأسد، وبيت صغير يُتخذ للملك او القائد أثناء القتال، جحر الحيّه، الفرقة من الناس، الثقل والذليل الحقير.