(فيترجيَّة) ونجّارة وبقّالة المرأة العراقية بألف رجل!
آية منصور /
بيدٍ أنثويَّة تهزّ مهد العالم، وباليدِ الأخرى تمتص بحنيّتها الألم وتحول الأحزان إلى طوق نجاة وحقل جمال، فهي الأم والعاملة والمربية في آنٍ واحد، وهي التي تحملت مشقات الحروب دون أن يهدأ لها بال، وصنعت عشّ الحياة الآمن دون أن ينتبه لها أحد، كانت فقط تجري وتضحي من أجل أن نعيش مطمئنين.
حكايات عن نساء عراقيات استطعن اختراق جدار الصوت الرجالي والعمل بمهارة فردية في مختلف المجالات المحظورة عليهنّ، في محاولة لإثبات وجودهن في مهنٍ كانت محصورة ضمن تخصصات معينة، يعترضها في العادة فيتو الرجل، الحقيقة هنا أن المرأة العراقية تعد بألف رجل، وقادرة أن تبرع وتتفنن وتعمل كل شيء.
نجّارة.. بمزاج أنثوي
بين معدات النجارة، المسامير والخشب وقطع الغيار المعدنية، تتنقل النجّارة (نور الجنابي) داخل ورشتها كالفراشة وتصنع بمزاجٍ أنثوي متقد أريكة مغلفة بقماش أنيق، إذ أن شغفها بمهنة النجارة جعل منها امرأة أعمال رائدة في بغداد فـ “كسرت حاجزاً” داخل المجتمع العراقي المحافظ الذي لا يتقبل أن تنهمك المرأة في مهن “محتكرة للرجال”.
نور التي تبلغ من العمر 30 عاماً، تتفنن في ورشتها الواقعة في حي الدورة، بالكثير من التفاصيل الملهمة والصعبة للغاية، بصناعة الأرائك والمقاعد المغطاة بقماش صوفي أو (مقدف)، ترمم القديم منها، وتعيد صناعته بطريقتها الاحترافية، علماً بأن الكثير من أقاربها كانوا يعتقدون أنها لن تستمر في مهنتها، ولن تنجح، لكونها مهنة صعبة للغاية، وتتطلب جهداً بدنياً كبيراً، إلا أن نوراً أثبتت لهم العكس، ذلك أن حبها لمهنتها يزداد كل يوم مع ازدياد الطلب عليها وحب الناس لما تفعله، بل إنها وجدت أن العديد من النساء بدأن يطلبن نتاجها، لأنهن يثقن بذوقها أكثر من الرجال.
(فيتر) نسوي بارع
حاولت الفيتر (ميسون) البحث عن مهنة تحبها أكثر مما تحب مهنة تصليح السيارات، لكنها لم تجد، لأن مهنة كهذه لربما ستجلب لها الكثير من المشكلات، ولاسيما أنها العاطلة التي تخرجت في الجامعة ولم تجد فرصة للتعين والعمل، فما كان منها إلا أن تعود إلى هوايتها وشغفها، وهي تصليح السيارات، هذه الحرفة التي ورثتها عن والدها وأتقنتها منذ سنوات، إذ يرتاد ورشتها يومياً العديد من النساء لصيانة سياراتهن وإصلاحها، بينما تأمل هي في توسيع مشروعها واجتذاب نساء أخريات إلى هذه المهنة التي يحتكرها الرجال.
في البداية تعلمت ميسون تصليح محركات السيارات اليابانية من والدها منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها، ثم تدربت في بعض الورش الحكومية، وسرعان ما أصبحت تجيد تصليح السيارات الأمريكية، ثم الألمانية، وحتى الصينية، بعدها أصبحت ميسون أكثر خبرة بافتتاح ورشتها، فهي تعلم تماماً أن المرأة السائقة سوف تحتاج إلى امرأة تفهم طبيعة المشكلات في سيارتها.
تؤكد ميسون أن والدها (رحمه الله) كان بمثابة مهندس، إذ كان يخطِّط بصمت ويرسم أفكاراً مجنونة، ويطلب من ميسون وأختها تحويل هذه الخيالات إلى واقع، وهنا تضحك وهي تسترجع كيف أنهم صنعوا مرة أرجوحة، وقفصاً للطيور، وحتى تأسيس شبكة كهرباء من معدات وحديد خردة من (السكراب).
سيدة الخضراوات اللطيفة
البقالة (أم حسن) تبتسم –كعادتها- بوجه المارّة في السوق وهي تجلس خلف (بسطيتها) تبيع الخضراوات الطازجة لساعات طوال منذ سنين عديدة لإعالة بناتها بعد وفاة زوجها الذي كان يعمل في هذا السوق، لذا يحق لنا تسميتها بـ (سيدة الخضراوات)، وذلك لطريقة تعاملها اللطيف مع باقات النعناع والبقدونس، وعنايتها المستمرة بها، فالحياة، كما تؤكد، “قاسية ولا ترحم، فبعد وفاة زوجي واجهت الأسى الحقيقي والجوع، فما كان علي إلا أن أعيل بناتي بامتهان العمل نفسه، اعتدت الجلوس هنا يوميا،ً وكل ما أجنيه في نهاية اليوم أنفقه على البيت وحاجة الفتيات، علماً أن ولدي حسن يساعدني في الكثير من الأمور، لكني أحببت العمل شيئاً فشيئاً، حتى أصبح جزءاً من حياتي.”
أم حسن تعيش مع بناتها اللواتي تخرجن في الجامعة، وابن وحيد متزوج، فتكتفي ببيع الخضراوات وأشياء بسيطة حولها، كالصابون ومستحضرات التنظيف، ولو كان الأمر بيدها لباعت قلبها من أجل إطعام عائلتها.
أم عطور.. ممرضة الحياة
المكافحة (أم عطور)، كما تحب أن نسميها، هي ذاتها الممرضة الماهرة بمشروعها الخاص، التي كافحت كثيراً حتى امتلكت شعبية كبيرة في منطقتها والمناطق القريبة، وذلك لمهارتها في التمريض. تستذكر معنا أولى تجاربها في مجال العناية الطبية، حين معالجتها رجلاً كان مصاباً بحروق، وتستذكر باستغراب -بأثر رجعي- سر قوتها في تلك اللحظات واستقبالها لذلك المريض الذي كان يعاني من حروق شديدة:
“لا أعلم كيف جاءتني القوة والشجاعة، ومنذ ذلك اليوم وأنا استقبل جميع المرضى دون خوف، حتى في أوقات نومي، وعند الفجر، في عيادتي التي هي عبارة عن غرفة اقتطعتها من المنزل منذ أكثر من 23 عاماً، مع سويعات قليلة من الراحة، استقبلهم حتى في الفجر فأمنع عن عينيّ النوم من أجلهم، علماً بأنني أثناء الحرب وسنوات الطائفية أبقيت غرفتي مفتوحة وكنت أنام في داخلها، لأن الجرحى كانوا يتوافدون باستمرار، ولاسيما أن في تلك الفترة كان هناك حظر للتجوال.”