بعد خراب البصرة!

781

نرمين المفتي /

مع أول يوم في العام الجديد، بدأت بالرد على الصديقات والأصدقاء الذين بعثوا بالتهاني على وسائل التواصل الاجتماعي، طبعاً ليس على الجميع، فالذين يبعثون بتهانٍ جاهزة ويرسلونها إلى الجميع، في العادة لا أرد علبهم، لأنهم ليسوا جادّين إنما يفعلونها كإسقاط فرض، جاوبت بالمثل على صديق أرسل لي رسالة قصيرة بثلاث كلمات “عام جديد سعيد”، وفاجأني ردّه “أي، بعد خراب البصرة وسقوط ورقة أخرى من سنوات عمري”، و سألته “و ما هي علاقة خراب البصرة بك؟” فكان جوابه “سيُصبِح عمري مع الشهر الثالث ٦٤ سنة ولم أتمكن من تحقيق أية أمنية بسبب الأوضاع غير الطبيعية في العراق منذ أن كنت طفلاً ولحد الآن، يعني عمري مثل البصرة وماذا تعني لي السعادة، إن وجدت، بعد هذا الخراب؟” واقتنعت بأسبابه وفكرت بالمثل (بعد خراب البصرة) الذي يستخدم في العراق منذ القرن الثالث الهجري (القرن التاسع الميلادي) إبان ثورة الزنج في البصرة وبعد القضاء عليها بعد نحو ١٤ سنة، عاد قائد الجيش المنتصر إلى بغداد وتجمع الناس في الشوارع لاستقباله، قال أحدهم مستنكراً (بعديش، بعد خراب البصرة ). ولو قرأنا التاريخ العراقي منذئذ وحتى قبله، ولحد الآن يعيش هذا المثل وبإصرار ويستخدم في كل تفاصيل حياتنا، الاجتماعية والاقتصادية والشخصية والسياسية، إن كانت البصرة عامرة أو خربة (لا سمح الله).
صديق لي تعرض لعقوبات إدارية واتضح بعد أن أقام دعوى في محكمة القضاء الإداري أن إدارته أخطأت في توجيه العقوبة دون التحقق في الأمر واستندت إلى (تقرير) بدون اسم، تماماً مثل التقارير التي كانت تكتب في سنوات حكم النظام السابق، وهو اُسلوب جبان فسح المجال لتسقيط الكثيرين دون وجه حق، وكان كاتب التقرير (المجهول) قد أفاد بأنه سهل تسيير معاملة شقيقه! علماً بأن صديقي هذا موظف في دائرة وهو في علاقة يومية مع المواطنين ووصل دور معاملة شقيقه بعد خمسة أشهر من تقديمها وتخيلوا المدير يقول له كان على شقيقه أن يقدم معاملته حتى لو كان في محافظة أخرى طالما هو مسؤول عن قسم تسلم معاملات المواطنين! وحين تسلم صديقي كتاباً بإلغاء العقوبات الإدارية، قال (بعد خراب البصرة)، إذ تسلم رئاسة القسم موظف لا علاقة له بأخلاقيات المهنة وأصبح ينظر إلى المعاملات بعد تسلم (الهدايا)!
أمور كثيرة ينطبق عليها هذا المثل البليغ جداً، وكنت أتمنى لو أن التاريخ حفظ لنا اسم ذلك الرجل الذي نطق بهذه الجملة. وأقف عند الذين يبتكرون الأمثال والحكم والنكات الذين هم في غالبيتهم مجهولون، لكنهم مبدعون بامتياز ويعرفون النفس البشرية جيداً، هؤلاء مجهولون وكتبة التقارير مجهولون وشتان بينهم، فالمجموعة الثانية جبناء وحاقدون حتى على أنفسهم ولا يعرفون المحبة ويخشون المواجهة. وكل عام والجميع بخير وأمان وسعادة ممكنة، نسأله سبحانه أن يجنبنا وإياكم شرور كَتبة التقارير وحقدهم.