فيلسوف العراق

31

إبراهيم العبادي/ 

عرف العالمان الإسلامي والعربي رموزاً فكرية وثقافية وعلمية كبيرة خلال المئة عام المنصرمة، كانوا شواخص على طريق النهضة، وعلامات استنارة ووعي نقدي ورواد مشاريع فكرية.
لم يكن العراق استثناءً، فقد أنجب رجالاً أفذاذاً في تخصصات مختلفة، كانوا بحق عقولاً مفكرة، ذوي عطاء شاخص. رحل أكثرهم الى بارئهم تاركين خلفهم تراثاً وجدلاً يخبو ويتصاعد كلما جد سؤال معرفي أو اخلاقي هنا، وكلما انفجرت أزمة هناك.
من بين أبرز رجالات العراق الذين غطى فكرهم مساحة كبيرة من الاهتمامات والشواغل، وترك بصمة فكرية واضحة في حياة جيل أو جيلين من أجيال العراق، كان السيد الشهيد محمد باقر الصدر (1935-1980).
بعمر 45 عاماً قتل نظام صدام السيد الشهيد، وفرض حصاراً على فكره ورمزيته المعرفية، فخسر العراق رجلاً معطاء، ليس على صعيد الفكر الديني والعلوم الاجتماعية فحسب، بل إنه كان يمثل ثروة علمية أضافت الى الفكر الإنساني عموماً، والفكر الإسلامي على نحو خاص.
كان محمد باقر الصدر شاهداً وشهيداً على مرحلة عاصفة من تاريخ العراق، فقد شهد صراع اليسار الماركسي واليمين القومي، كما شهد صراع العسكر والمدنيين، وشارك في إنتاج الفكر وأنجز ما كان سلاحاً ووقوداً في معركة (الصراع الحضاري). قاد الصراع بقلمه وفكره، وانتهت حياته شهيداً مدافعاً عن الحريات والكرامات والحقوق في أشد لحظات الزمن رعباً وعبوساً وقتلاً واختناقاً في تاريخ العراق الحديث والمعاصر.
هل انتهى محمد باقر الصدر فكرياً في حياة العراقيين كما انتهت حياته بالقتل قبل أربعة وأربعين عاماً؟ لقد تغيرت وجهة المعارك كثيراً منذ زمن ليس بالقليل، وتداخلت خنادق عديدة، وأعيد إحياء الصراع بين ذات الجبهتين المحتدمتين. وفي ذروة التعبئة الإعلامية والفكرية، يستعاد محمد باقر الصدر ليرد ويصارع من جديد، لا لكي يفكك التخلف الفكري والحضاري الذي عشنا فيه طويلاً، وذهب شهيداً ثمناً لهذا التخلف، بل لكي يمنح الشرعية لهذا الفريق المحلي، أو يضفي المشروعية على عمل ذلك الفريق.
محمد باقر الصدر ابتدأ قارئاً ومفككاً للتاريخ الإسلامي، ثم انعطف الى الفلسفة وعالم الفكر الغربي بمدارسه المختلفة، شارحاً ومطارحاً ومجادلاً وناقداً ومبدعاً، لم يترك علومه الأصيلة في المدرسة الدينية الإسلامية دونما إضافة وتطوير وتجديد وهندسة حديثة، فكان مثرياً ومجيداً. فهو إذن رجل تنوير واستنهاض وعلم وعمل، من الطبيعي أن يكون فكره متأثراً بالمرحلية والمحلية وبالأزمات القريبة، لكنه كان عالمياً وإنسانياً، هدفه الانسان ورفاهه وحريته وحقوقه.
نحتاج الى ما بقي حياً من فكر الصدر، ذلك الجزء الذي عبر أسوار التاريخ ليكون ضمن قضايا الوطن والوطنية، والعالم والعالمية، والإنسان والإنسانية، والفلسفة التي لا تموت بموت أصحابها. كان الصدر شاهدا ثم صار شهيداً، وإحياء الصدر في نفوس الأجيال يتطلب منهجية غير منهج التعبوية.