..وخذ من شاعر القطرين مثلا!

28

جمعة اللامي

نقول، ومن الله التوفيق: لا يزال في الوقت متسع، ولا يزال سهم ينتظر مطلقه، ولا تزال القوس ترنو الى من يشدّها. فاللحظة التاريخية، كما في أيامنا هذه، تمر بهذا أو ذاك، فلا يكاد يراها، لأنه أعمى القلب.
سقاك الغيث يا جهل فكمْ …. سقيت في كأسك الأقوام مرَّا
(خليل مطران)
وما أدراك ما شأن عمى القلب والبصيرة كما هو في أيامنا هذه، فيصعّر خده عن الناس ويلوي عنقه، وينصرف الى معلفه!
فماذا يخسر أحدنا لو قال: لا؟
سوف يخسر خوفه فقط، ولا يربح إلا شجاعته. وبعد ذلك (لا يقدر على قطع الرأس إلاّ الذي ركّبه) كما يرد لك، ولا يمنع الرزقَ بشرُ مهما بلغت قوته وجبروته: هو هنا أمام تلك “اللحظة التاريخية”، ليختار أرقى إختياراته فينزل الى الشارع أو يهجر بلدته، أو يتخذ القفر مقيلاً.
وهذه أخلاق الأحرار. وذاك هو خليل مطران، الشاعر اللبناني البعلبكي، المنشق عن كنيسته، المهاجر الى مصر، المتخذ من الصحافة منبراً ليقول كلمته، الذي خسر خوفه وربح شجاعته. اقرأ سيرته كما تداولها إخوانه وزملاؤه أبناء لبنان وبلدان العرب، ثم اطلع على ديوان شعره: “الطغاة” الذي جمعه وقدم له العلّامة رئيف خوري، وصدر في بيروت سنة 1949.
سيرة عطرة بين سنة 1870 الى 1949، بين لبنان ومصر، بين بيروت والقاهرة المدفون فيها.
إنه “شاعر القطرين”، الصحافي، المسرحي، الخطيب، والناشط من أجل حقوق العرب، والمرأة خصوصاً. لقدعاصر الجبابرة الشرقيين، فكان عليه أن يختار الفنان في نفسه، ويهجر ما خلا ذلك، لأن كل شيء ما عدا الفن باطل، فخلق فردوسه، وخلّد نفسه في كتبه ومواقفه.
كان يمكن له أن يغمض عيناً ويفتح أخرى، فيربح الجاه والمال والحظوة والسلطة.. ويخسر نفسه. وهو قرر أن يربح نفسه. وكان بمقدوره أن يصمت، كما المئات الصامتين عن عذر، أو كما الآلاف من “بني صامت”، لكنه وقف وحيداً مع نفسه أمام مرآته المنزلية، وقال: “كيف لا أقول لا، ورب القلم يراني على حقيقتي؟”
في هذه الأيام ينفرز السمين من الغث، والزبد مما ينفع الناس، والكميّ من الجبان.
فاختر خندقك يا أخي، وتوكل على الله، كما اختار خليل مطران جنته!