دكتور وهمي!

219

بيان الصفدي/

كانت المرة الأولى التي عملت فيها في ملحق جريدة الجمهورية الثقافي، ومسؤولها حينها صحفي عربي، وكان شخصاً عجيباً يكذب بشكل مرضيَ، فيحدثنا عن علاقاته بالمسؤولين ومعرفته بأدق الأسرار، خاصة عندما اشتعلت الحرب مع إيران فكنا للسخرية نهمس له مثلا:
– صحيح العراق اليوم ضرب صاروخين نوع سكود على إيران؟
فيشير بأصابعه 4 أو 5 حسب ما يخطر على باله، وهكذا..
وحدثنا مرة أن صدام حسين يتصل أحياناً بمنزله ويطمئن على الجميع، حتى على زوجته، وصار يكتب افتتاحيات فيها تبجيل بصدام وعبقريته، وذات يوم كتب افتتاحية طريفة، مختصرها أنه يملك أرضاً في الجليل بفلسطين، ويحتفظ بأوراق ملكيته لها، وبما أنه واثق أن صدام حسين سيحرر فلسطين كصلاح الدين الأيوبي، فيرجوه أن يتقبل هذه الأرض هدية منه!!.
إلى هذا الحد، فالأمر عادي، اذ شاعت أمثال هذه الكتابات بشكل هستيري، وأحياناً درَّت مكاسب لا تحصى، تبدأ بطقم أقلام فاخر أو ساعة، ثم بسيارة أو مبلغ من المال، وانتهاء بشقة في العراق أو خارجه!
بعد أيام وإذا بالصحف تنشر خبراً مفاجئاً أن القائد الرمز يستقبل الكاتب العربي س.
صرت متشوِّقاً أن التقي به ليحكي لي ماذا دار في ذلك اللقاء، وإذا رمينا الخيالات منه، فقد قال لي وهو أمر عرفنا حقيقته:
-أخوك ما فوَّت الفرصة، قال لي الرئيس محتاج شي؟ فقلت له: نعم بيت فأمر لي به فوراً فقال: بعد أكو شي؟ فقلت له: سيدي ما أقدر أؤثثه، فأمر بتأثيثه أيضاً، ثم قال: تريد شي بعد، فقلت: سيدي أنا وضعي صعب وماخذ قرض من البنك، لو تكمل فضلك معي. فأمر بأن تسدد الدولة القرض.
أذكر في نفس اليوم كيف اصطدم س مع صحفي آخر ربما اسمه محسن عبد الرحيم، والطريف أنه ضابط الأمن في دار الجماهير، فعندما عرف أنه نال شقة مؤثثة قال له:
-والله أنت متسول، بعدين أنت مو عراقي حتى تطلب بيت ملك.
وكاد الشجار يصل إلى الضرب، وحاول س سحب المسدس الذي كان يحمله على جنبه لولا تدخل من حوله.
لا أنسى أنني لم أعد أطيق س، فصار يتصرف كرجل أمن لا كصحفي، فبلا سبب تركت العمل في الملحق، لكن بعد أن رتبت مقلباً من أطرف المقالب معه، فقد كان دائم المفاخرة بأنه أهم قاص عربي، وأنه بعد أن نام مع كاتبة معروفة قالت له:
-والله أنت أهم من غسان كنفاني!
لهذا اتفقت مع الصديق مالك المطلبي على المقلب التالي:
كان س سيسهر معنا في مطعم جلجامش، وسنجتمع جميعاً في الملحق مساء للانطلاق، مجموعة مؤلفة من علي المندلاوي وأحمد رستم وعلي حيدر وضرغام هاشم وأحمد عبد المجيد وكامل عويد العامري وأمين جياد وعلي حيدر، وقبل الانطلاق بدقائق رن الهاتف يطلب س، فكان على الجانب الآخر مالك المطلبي بقدرته الفائقة في المقالب وتغيير نبرة الصوت، فأخبره أنه طالب دكتوراه في الولايات المتحدة اسمه سعد الدوري ينزل في فندق الميليا منصور، ويعمل رسالته في أدب س، ويريد مؤلفاته وصوراً عن أرشيفه اليوم، فهو مضطر للسفر غداً صباحاً!!
انقلب س إلى مخلوق آخر من فرحة المفاجأة، وصار يقول لنا:
-يا أخي شو بدي لحق على الطلاب اللي بيعملوا عني رسائل جامعية، خلصولي نسخي وأرشيفي، هذا واحد منهم، مضطر روح ع البيت جبلوا نسخي وصور أرشيفي.
ذهبنا إلى سهرتنا، وكدنا ننهيها، فجاء س قبل انفضاضها بقليل متجهماً، وقد أكل المقلب كاملاً، ولا أحد يعرف سواي وعلي المندلاوي بأمر ذلك الطالب، فلو تسرب الأمر لانتقم انتقاماً مؤذياً، فسألته:
-ان شاء الله مشي الحال أستاذ س؟ شايفك زعلان؟
فقال:
-مشي الحال، لكن دخت وأنا دور له على كتبي وأرشيفي، المهم حرام الرجل مسافر الصبح لأمريكا!
في الجلسة ظل شارداً مهاناً، لكنه تصنَّع أنه دائماً مضطر لخدمة الدارسين، لقد غادرت العراق ولم يعرف أن سعد الدوري اسم وهمي، وأن من كلَّمه هو مالك المطلبي!.
بعدها بسنوات طويلة، قرأت له اكتشافه لقائد جديد يريد أن يهديه وثائق ملكيته لأرضٍ له في فلسطين، لكن لسبب ما كان عرضه بلا ردة فعل من ذلك القائد الذي تجاهله تماماً.