ما أجمل رمضان!

160

حسن العاني /

في عام 1950، وأنا ابن ست سنوات على الأرجح ، كانت تلك أول زيارةٍ إلى مدينتي عند أعالي الفرات، التي لم يسبق لي أن زرتها من قبل.. إذ كنتُ، بخلاف أُسرتي، من مواليد وسكنة بغداد.. كل شيء هنا، في مدينتي الفراتية، غريب على تجربتي البغدادية: النواعير والسواقي الصغيرة والمنازل التي تتوسط البساتين والجبل ولهجة السكان التي لا تشبه لهجة أهل بغداد.
و… وإذا حان وقتُ صلاةٍ فإن الشوارع تخلو تماماً من المارة، لا أحد ممن هو في عمري أو أصغر أو أكبر إلا ودخل المسجد… أنا الغائب الوحيد، مستثمراً، أو على وجه الدقة، مستغلاً ذلك الدلال الذي يمنع عائلتي من الضغط على طفل صغير!
زوجة عمي (أم يوسف) كانت أكثر من الجميع هي الحريصة على تدليل ذلك الطفل الذي توفيتْ والدته وهو رضيع ثديها.. كانت امرأة نبيلة غمرتني بالحنان والحضن الدافئ… وهاهو صباح تطرزهُ جماليات المكان، وأعلم بأنه أول يوم من رمضان، رأيتُ مدينة (عنة) القديمة التي ابتلعها النهر من فراتها وبساتينها ومزارعها ومنازلها إلى جبلها.. (صائمة)، لا تميز بين تلميذ في الصف الأول الابتدائي، وبين شيخ يتوكأ على عكازه.. الجميع أمام هيبة الصيام وحرمته كأسنان المشط.. إلا أنا، المتمرد الوحيد على قوانين (القرية الكبيرة) وأعرافها الصارمة في رمضان!
ما أهون الأمر لو كنتُ متمرداً في السر، ولكنني، عن غير قصد أو عمد، ولا بنيّةٍ سيئة لمعصية الله وإطاعة الشيطان، كنتُ أتسلى بحلوى (أصابع العروس)، مُسْقِطاً عن نفسي فرض الصيام!! في صباح ذلك اليوم، قادتني الأقدار إلى الشارع، واذا بي أفاجأ بأنّ شحمة أُذني قد وقعت في كماشة أصابع غليظة لرجل يسألني عن أسرتي، وعندما أجبته شدّد من كماشته وهو غاضب لأنني من عائلة (متدينة) ولكنها لم تعلمني أصول الدين، ثم قادني إلى منزل عمي، حيث استقبلتنا المرأة النبيلة.. كانت تعتذر وهو يعاتبها بقسوة… أخذتني إلى الداخل وقدمتْ لي مزيداً من أصابع العروس، وأخبرتني بأن هناك صياماً خاصاً بالأطفال، وذلك بالدخول إلى الغرفة وغلق بابها وستائرها حتى تصبح مظلمة.. ثم يأكلون كل ما يعجبهم على أن يقولوا (اللهم لك صمتُ وعلى رزقك أفطرت)، أما خارج الغرفة فلا يجوز تناول الطعام. اقتنعتُ بالأمر وقلت لها [ أُريد أن أفطر] ، فاصطحبتني إلى الداخل وأجرينا اللازم، حتى أصبحت الغرفة مظلمة، وهكذا أمضيت الشهر الكريم وأنا صائم على (24 حباية)، لا أشكو من جوع أو عطش أو تعب، وأدعو مع الداعين على مائدة الإفطار : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله …