“ماما شيرين”.. الهامها دمعة طفل وحلمها جزرة وسطية
آية منصور /
“لَفَتتني دمعةٌ مختنقة في عيونِ طفلٍ يتيم كان يشدّ عباءة أمهِ الكالحة ويصرخُ بحسرةٍ فيما هي حائرة تحاولُ إقناعه أن يصمت. في بدايةِ الأمر تصورتُ أن هذا الصغير يُعاني من وخز الإبرة كما هو حال كل الأطفال الخارجين من بابِ وحدة الديلزة.
” اقتربت من والدته وسألتها وعرفت ان سر بكائه السيارة الصغيرة التي شاهدها بيد طفل يتعالج معه وثمنها الذي لا تملكه الام التي اتعبتها الظروف هو ثلاثة الاف دينار وتباع بالكشك عند بوابة المستشفى، وضعت في يد الام المبلغ وقلت لها ان احلام الاطفال لا تتعدى قطع الحلوى والالعاب، اذهبي وحقي له حلمه وانا سأهتم به حتى تعودين”.
من هنا جاءت رسالة القدر ولحظة الشروع إلى شيرين محمود، مرشدة التوعية الصحية في مستشفى كربلاء التعليمي، التي كانت تقص لنا الحادثة التي ألهمتها إطلاق مشروعها الإنسانيّ الكبير، مستدركةً بالقول:
كوخ وفرح
“مشروعنا حظي بالموافقات الرسمية من إدارة المستشفى، وخُصص له مكان تحت السلم لا بأس بمساحتهِ، قمت بترتيبه على هيئة كوخٍ صغير مجهز بما يجذب الأطفال ويسعدهم بتلويناته وتفاصيله وعلى نفقتي الخاصة، وكل المساعدات التي يُسمح بها هي عبارة عن هدايا عينية لامادية للأطفال، علماً أن عملي في قسم التعزيز الصحيّ جعلني أعدّ نفسي أمّاً للأطفال كافة، وطبيعة البرامج المخصصة تعتمد التوعية والإرشاد والنصح المُقدم، ولاسيما عن تعقيم اليدين وارتداء الكمامات للأطفال المرضى وذويهم سواء أكانوا راقدين أم وافدين، أو ممن يعانون أمراض الحساسية أو السرطان. ما أقدمه يشمل الأيتام وغير الأيتام، وتهدف برامجنا الترفيهية والتثقيفية اليومية إلى تحفيزهم على النشاط والتجدد بتوزيع ما يقارب الثلاثين هدية في اليوم، فضلاً عن وجبة الإفطار اليومية عدا يومي الخميس والجمعة. تبدأ نشاطاتنا الفنية والترفيهية والتربوية من الساعة الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، أي بعد الانتهاء من الوجبة الصباحية إذ نبدأ بما خصصناه لكل يوم في المنهج من مسابقات وأسئلة ومهارات فردية نفرز في نهايتها الفائزين ونكافئهم بالهدايا.”
نشاطات وبهجة
جملة اتهامات وتصورات خاطئة كانت تُثار حول هذا الكوخ البسيط، تحدثتْ “ماما شيرين” عنها بهدوء:
“يعتقد بعض الناس أن ما أفعله يندرج ضمن الحملات الدعائية الخاصة بالترشيح للانتخابات، بعضهم الآخر يرى أنني أخطط للاستيلاء على إدارة المستشفى، لكن تلك الإشاعات لم تثنِ عزيمتي أبداً عن الاستمرار، لأن ما يهمني هم الأطفال والبهجة التي كانت ترتسم على وجوههم وقلوبهم، فهي غايتي. وفي ما يخص مصدر الأموال المصروفة لشراء تلك الهدايا، فأنا والحمد لله أملك مصدراً آخر للإنفاق على احتياجاتي الشخصية، لذلك أتبرع براتبي وهو يفي بالغرض، وأحياناً يتبقى منه مقدار من المال كل شهر نخصصه للعمليات المعقدة أو الحالات الطارئة أو العلاجات غير المتوفرة في المستشفى. أما الجانب المخصص لطلبة الصفوف المنتهية فقد قدمت لهم جدولاً مخفضاً بالتعليم الخصوصي لجميع الدروس والحمد لله فقد نجحوا بمعدلات عالية، لدينا أيضاً المعينون وعمال النظافة، الذين وفرنا لعدد كبير منهم سيارات أجرة (سايبا) يكون عائدها الشهري للأطفال ولعمليات المحتاجين وشراء الأدوية النادرة، علماً أن هؤلاء الشباب (أصحاب التكسي) استطاعوا أن يعيلوا أنفسهم ويتزوجوا، ولأن نفوسهم عزيزة عدّوا المساعدة ديناً يسدد بالتقسيط. كذلك شجعنا الأطفال الذين يبيعون في التقاطعات المرورية على العودة إلى المدرسة بعد تأهيلهم تربوياً وتجهيزهم باللوازم ومنحهم مصروفاً شهرياً يساعد ذويهم على تجاوز الظروف الصعبة، وقد نجحنا في تأهيل (6) أطفال.”
(جزرة وسطية) وأحلام..
“ماما شيرين” أمٌ لطفلين دفعها خوفها وحرصها المستمر عليهما أن تدرك أهمية توفير رحلات وكراسٍ وطاولات ملونة تمنح الأطفال شعوراً حقيقياً بأنهم ليسوا في المستشفى بل بين أصدقائهم ومدارسهم وبيوتهم، تقول:
“تهيئة فكرة الكراسي الملونة والطاولات الجذابة، التي تمت بمساعدة الصديق (أحمد مهدي سعدي)، سوف تعطيهم شعوراً بالدفء الأسري، كل شيء موجود حولهم: المدفأة والدب الكبير الذي يحتضنهم. منذ أربع سنوات وأنا أقدم لهم يومياً نصائح تربوية مختلفة، كنا نضحك ونغني ونرسم معاً، الأطفال صار بعضهم أصدقاءً للبعض الآخر بعدما كانوا يخشون الحديث أصلاً، وكانوا يرفضون البقاء في المستشفى الذي تحول اليوم في نظرهم وببساطة إلى مكان مُحبب أعلمهم فيه طوال الوقت كيف يقلمون أظافرهم وكيف يرتبون أنفسهم وينظفون ملابسهم، علماً أنني أزودهم على نحو دوري بالملابس والجوارب، لقد أصبحت لهم عاداتهم الأخلاقية الجيدة ولهم القدرة على رفض الأمور السيئة وغير اللائقة، علاقتي بهؤلاء الأطفال لم تتحدد بالهدايا والعناية والتثقيف، بل اتحول الى طفلة والعب معهم”
وعن أصعب ما واجهته من مواقف، وعن أمنياتها المستقبلية لهذا المشروع، تقول “ماما شيرين”: “غادرني ناس كُثر، ولم يبقَ بجانبي سوى زوجي الذي هو من كان يقول لي: حتى لو تركتكِ أنا أيضاً، فلا تتركي هؤلاء الأطفال. وأصعب موقف كان حينما طلبت مني طفلة يتيمة تحقيق أمنيتها الصغيرة بأن أحضر لها والدها، فاتصلت بزوجي منهارة فتكلم معها وقال لها: أنا بابا، وكل ما تريدينه أطلبيه مني وسأنفذه على الفور.
أمنيتي الوحيدة وطلبي من المسؤولين، ومن كل شخص قادر على تحقيقها، أنني بحاجة إلى مكان، أو حتى (جزرة وسطية)، ننقل إليها عالمنا الصغير ليَسع الجميع.”