ساحة التحرير.. مركز بغداد التاريخي.. تعود من جديد

865

ريا عاصي /

يطلق البغداديون اسم (الأمانة) على الباص الأحمر التابع إلى أمانة مصلحة الركاب. كانت تتقاطر هذه (الأمانات)، الواحدة تلو الأخرى، قرب جسر الجمهورية وبجوار بناية المطعم التركي. في بداية شارع الرشيد كان يقع محل إسطوانات (جقماقجي)، أول استوديو لتسجيل الأغاني في العراق، وبإزائه المعرض الدائم للبيع المباشر التابع لوزارة الصناعة للسجاد العراقي، وقريباً منه يقع البيت العراقي ومعرض الفن والفولكلور العراقي الدائم للسيدة أمل الخضيري.
أما اليوم؟
عودة ساحة التحرير…
بدت هذه الساحة، على عكس حالتها المعتادة، خالية من المارّة والمتسولين وماسحي زجاج السيارات، شوارعها تخلو من السيارات الخاصة وسيارات نقل الركاب الصغيرة والكبيرة. وقد شكلت قوات حفظ النظام حولها طوقاً من الجنود ذوي الدروع الشفافة والخوذ السود، وعند مدخل جسر الجمهورية كذلك، وفي كل قوس من أقواس عمارة المطعم التركي يجلس أحد أفراد حفظ النظام ببزاتهم العسكرية ودروعهم.
تحت نصب الحرية وقفت سيارة لحمل الأنقاض تابعة لأمانة بغداد وعدد من عمال الأمانة يقومون بتزبير أشجار حديقة الأمة وينصبون هيكلاً حديدياً (سكلّة) تحت نصب الحرية لرفع القطع والشعارات التي كان المتظاهرون قد وضعوها منذ عام مضى.
أما حديقة الأمة، فقد افترش أرضها كثير من صنوف القطعات العسكرية من وزارتي الداخلية والدفاع وكذلك من الاستخبارات العسكرية.
تحلقت كوكبة من الموظفين التابعين لأمانة العاصمة حول رئيس المهندسين الأقدم (أحمد خوام خيون)، مدير عام بلدية مركز الرصافة، وهو يتابع أعمالهم ويوقع لهم أذونات العمل والصرف لاستكمال واجباتهم التي تتمثل في إعادة الإنارة ورفع القطع والشعارات والإعلانات التي مر عليها زمن طويل، كذلك رفع الصبّات المتبقية وتنظيف مداخل الشوارع التي تحيط بساحة التحرير.
مجلة “الشبكة العراقية” التقته فصرح قائلاً: “الحقيقة منذ خمسة أيام مضت تم التعاون والتنسيق بين بلدية مركز الرصافة وعمليات بغداد وكوكبة من المتظاهرين السلميين لرفع مخلّفات الخيام والأضرار الموجودة في ساحة التحرير ومقترباتها من جهة المصورين والمتوكل وشارع السعدون ومكتب العدل والجسر الجمهوري “.
أضاف: “باشرنا بعدها بإعادة الأرصفة والمقرنص ورفع المشوّهات الموجودة على الأبنية وكل ما كان ناتجاً عن الأضرار التي لحقت بالساحة ومقترباتها طوال عام مضى.”
يكمل: “كما باشرت الأمانة بوضع خطة لتطوير المنطقة ابتداءً من ساحة الطيران باتجاه ساحة التحرير حتى بناية المطعم التركي بإشراف السيد أمين العاصمة الذي يزورنا في الموقع خمس مرات في اليوم، إذ أن العمل جارٍ أربعاً وعشرين ساعة في الموقع.”
كما أشار: “سيتم قشط وإعادة إكساء الشوارع وتعديل الأرصفة والمقرنصات لكل ساحة التحرير ومقترباتها من جميع المنافذ، كما ستتم إعادة تأهيل حديقة الأمة وأسيجتها وتأهيل محال نفق ساحة التحرير.”
وأضاف: “هناك توصيات بإعادة فتح محال النفق على أن تكون خاصة بالسياحة ومكاتب السفر وبيع التذكارات وفتح محال للتصوير للحفاظ على هوية المدينة، كما تمت مفاتحة أصحاب المحال المجاورة للساحة لإعادة فتح محالهم والمساهمة في إعادة تأهيل واجهاتهم التي تضررت.”
وأردف قائلاً: “لقد تم الإيعاز من قِبل مكتب رئيس الوزراء السيد الكاظمي بإعادة تأهيل نصب الحرية وبناية المطعم التركي وتحويلها إلى متحف يضم صور شهداء ساحة التحرير ويوثق التظاهرات والمتظاهرين السلميين، وسيسمى (متحف ثوار تشرين).”
ودعتُه شاكرة تعاونه وتوجهت إلى أحد مسؤولي الأمن الذين رفضوا بشكل قاطع إجراء أي حوار رغم تقديمهم التسهيلات لي للقيام بمهمتي، كما رفض شرطة المرور في الساحة الحديث أيضاً بحجة أنهم غير مسموح لهم بالتصريح.
التقيت السيد أبا حسين الساعدي، وهو مصور فوتوغرافي متجول، فقال: “أعمل منذ 35 عاماً بالتصوير في هذه المناطق، وبالرغم من ظهور الهواتف الذكية إلا أنه ما يزال كثيرون من زوار بغداد يفضلون صورنا التي يوثقون بها زياراتهم لبغداد، توقفت عاماً كاملاً بسبب التظاهرات، وها أنا اليوم أواظب على الحضور يومياً علّي أستعيد مهنتي.”
في الجانب الآخر من الساحة باشر بعض التجار بإعادة فتح محالهم وتغيير واجهاتها والشروع بالعمل مجدداً، هناك التقيت السيد حيدر، ستيني، صاحب مختبر لطبع الصور والتذكارات وبيع الكاميرات، يقول: “لقد مر عام عصيب علي إذ أغلقت محلي بسبب التظاهرات لمدة أربعة اشهر من بدئها، بعد تلك الفترة قمت بفتح جزئي وباشرت العمل مجدداً أثناء التظاهرات، إلا أنني لم أوفق لصعوبة الوصول إلى المحل، ثم جاءت جائحة كورونا فأوقفتنا عن العمل أيضاً، لذلك نحاول اليوم أن نعوض خساراتنا التي مضت، بالرغم من أني ساندت التظاهرات والمتظاهرين إلا أني أب لثلاثة من الخريجين الجامعيين هم دون وظائف، لكنهم يعملون معي في المحل.”
مازالت محال كثيرة مغلقة لكن الخياطين وبائعي البدلات العسكرية أعادوا افتتاح محالهم.
وطن في ساحة التحرير
حيدر كريم،31 عاماً، من حملة الشهادات العليا، يعمل في القطاع الخاص وهو أحد متظاهري ساحة التحرير، اعتصم داخل أحد خيامها في حديقة الأمة، حدثنا قائلاً: “لساحة التحرير وقع خاص داخلي وداخل غالبية المتظاهرين، إذ احتضنت هذه الساحة مدة عام فئات مختلفة من الشعب العراقي، ولأول مرة نشعر بتلاحم كبير وعظيم بين كل أبناء بغداد والمحافظات، لقد غابت الفروقات واختلطنا ببعضنا وتعرفنا جميعاً على كيفية أن نحتوي الآخر مهما كان مختلفاً معنا، فكلنا شركاء في الوطن، وهذا التلاحم سيبقى تأثيره في نفوسنا كبيراً لسنين طوال وسيؤتي ثمار هذا التلاحم يوماً ما.”
ثم أردف: “ساحة التحرير لم تعد ساحة عادية، فكل من بحث عن وطن وجده في ساحة التحرير وكل من فقد عزيزاً أراد أن يعيد له اعتباره وجده في التحرير، لذلك ستبقى ساحة التحرير رمزاً لكل مواطن عراقي شريف نادى بحقه في الوطن والمواطنة.”
أبو علاوي، شاب في التاسعة عشرة من عمره، هو أحد سائقي التكتك، يقول: “لم أكن يوماً أتخيل أنني سألتقي بطبيب أو فنان مشهور أو صاحب شهادة عليا وجهاً لوجه، فقد نشأت في بيئة بسيطة، صاحب الشهادة الوحيد في حيّنا هو أبي الذي أتم معهد إدارة في حينه، لم أتمكن من إكمال تعليمي بسبب الفاقة، لذا عملت منذ أن كنت في الحادية عشرة، لم أخرج من منطقتي وألتقي بأي شخص عبر النهر، في ساحة التحرير التقيت بابن المنصور والكرادة والغزالية واليرموك وعرفت أن في بغداد كثيراً من أماكن الترفيه مثل الزوراء وصالات السينما، لقد كنت أحمل الجرحى بطرق تؤذي الجريح نفسه، لذلك دخلت دورة إسعافات أولية أقامها أفراد الهلال الأحمر العراقي لنا وسلموني حقيبة للإسعافات الأولية، وقد كنت الأول على وجبتين، صار لي أصدقاء وصديقات من كافة أحياء بغداد والتقطت صوراً مع كثير من الفنانين الذين يظهرون في التلفاز، ساحة التحرير صارت عالمي الذي كنت أحلم به، واليوم صار عندي طموح لإكمال دراستي وسأكمل تعليمي، ليس للحصول على وظيفة فقط، بل كي أحسن من وضعي الاجتماعي، صحيح أن خيامنا أزيلت من الساحة، لكني عرفت أن عبر الساحة يمكنني أن أعبر إلى الضفة الأخرى لأرى نصف بغداد الآخر الذي كنت أسمع عنه ولا أراه، السلطة ستأخذ الساحة منا، لكنها لن تستطيع محو ذاكرتنا أو اختراق صداقاتنا التي كبر بها وطني الذي لم يكن سوى شارع واحد فقط من قطاعنا.”
تقى محمد، 26 عاماً، خريجة حقوق تعمل في القطاع الخاص تقول: “أنا مع إعادة فتح الساحة للمرور والمارة، لأننا قلنا ما نريد في تظاهراتنا واعتصامنا رغم أننا فقدنا الكثير، أما مهمتنا اليوم فهي التركيز على الانتخابات لعدم تكرار أخطاء الماضي، نحن نمر بأزمة أخرى هي جائحة كورونا التي لم نشهد خلالها أية خطة سليمة من الدولة أو المواطنين للحيلولة دون انتشار الوباء، نحتاج إلى حملات توعية في كيفية رسم الخطط وكيفية عمل الجماعات في مواقف كهذه، لقد قلنا ما نريد وآن الأوان للدولة أن تحقق لنا مطالبنا.”
عبد الرحمن الغزالي،27 عاماً، مقدم برامج وأخبار تلفزيونية، يقول: “من غير المنطقي السؤال عن إعادة ساحة التظاهر بصورة إيجابية من قبل الحكومة، كونها معنية بالدرجة الأساس بمطالب هذه الساحة، وما خروج المتظاهر العراقي إلا تنديد بسلوك ونهج الحكومة، غير الآبهة بالوضع العام، هذا من جهة، من جهة أخرى لم يكن متوقعاً من المتظاهر ذاته إعادة زخم الساحة كالسابق، كونه قد كابد التنكيل والقتل والاختطاف والتخوين، إضافة إلى الإحباط، فأصبح صعباً أن يطلب المزيد أمام هذه المعوقات التي وفرت لها الأحزاب السياسية بيئة مناسبة للوقوف أمام حلم الفرد العراقي. ما أقدمت عليه الحكومة من فتح لساحة التظاهر في بغداد ومحاولة فتح باقي الساحات دليل استغلال الفرصة للخلاص من هذا الحقبة التي عرّت الكتل الفاسدة وطالبت برحيلها”.
كلمة أخيرة
عودة للأمانة.. مرت السنوات سنة تلو أخرى بعد سقوط الدكتاتور، أثبت فيها الشعب العراقي حسن نيته وأمانته لوطنه إذ شارك في انتخابات متعاقبة حمل فيها روحه على كفّه من أجل إرساء الديمقراطية في فترات تخللها الإرهاب والتفخيخ والقتل والدم لكل من ساهم في الانتخابات، كما قدم أسمى التضحيات في سوح الوغى من أجل طرد داعش وتحرير البلاد، وسطَّر أكبر صور التآخي لنجدة النازحين والمتضررين من الإرهاب والتفخيخ والقتل. وحين لم تلبِّ هذه الحكومات المنتخبة من الشعب واجباتها وقف الشعب في ساحات التظاهر كافة من بصرتها إلى الديوانية والنجف والناصرية وكربلاء والحلة وصلاح الدين وكركوك وديالى والسليمانية ودهوك والموصل وبأصواتهم ودمائهم طالبوا بإقالتها، وقد تم ذلك وأقيلت حكومة عبد المهدي وجاء دور الحكومة الحالية التي في عنقها رد الأمانة لهذا الشعب الذي رفض الفساد والإرهاب على حد سواء، وقدم الغالي والنفيس من أجل إعلاء كلمة عراق واحد، وطالب بمحاسبة القتلة والخاطفين وتحسين الواقع الاقتصادي والبنى التحتية وإعادة هيبة الدولة وهوية العراق التي تتمثل بأبنائه ومعالم محافظاته وتراثه الذي أصبح في مهب الريح، لذا فإن الأمانة كبيرة وثقيلة، فهل ستتعاون الأحزاب والسلطات التي تترأس البلاد في عدم تضيع الفرصة مرة أخرى؟؟
هذا ما نعول عليه كشعب واحد لعراق واحد.