الخيال.. في شعر الأتروشي

428

عدي العبادي /

يقول (إيلمان كراسنو) في كتاب (الحداثة – الجزء الثاني) إن “الانشغال التام بالخيال الإبداعي هو أحد السمات المميزة للأدب المحدث.” ويرجع اهتمام الفلاسفة بالخيال الإبداعي إلى القرن الثامن عشر، حين اهتم الكثير من المبدعين في شتى المجالات الإبداعية بصناعة الخيال، ويكاد لا يخلو أي نص إبداعي، أياً كان، من الخيال، بل إن الخيال أصبح أحد مقاييس الإبداع، إذ أنه دخل في كل مجالات الأدب.
ظهر الخيال في الرواية والمسرح والقصة والشعر والأقصوصة والرسم وأدب الأطفال والأعمال الدرامية والسينمائية، وأنتجت حركة الخيال العلمي أعمالاً فنية سميت بأفلام الخيال العلمي، اجتاحت العالم كله، وكانت نقلة متطورة.
الخيال الأسطوري
وهناك الخيال الأسطوري الذي ظهر في مجموعة الأساطير القديمة، الذي يعرف بالأدب الملحمي، وقد شهد الخيال الأدبي تطوراً كبيراً في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة، إذ حدثت فيه كثير من الأمور عرفت بما بعد الحداثة، منها استبدال الأثر بالذات، أو سيادة الخطاب الهامشي على الخطاب السيادي، والمزج بين الواقع والأسطورة، أو عدم واقعية الواقع نفسه، كما طور الشعراء الحداثويون في الخيال الشعري، من خلال أجيال متعاقبة من الشعراء المجددين، حتى أصبحت لدينا منظومة شعرية خيالية واسعة وشعراء خياليون في معظم إنتاجهم. واليوم نجد شعراء كثيرين يشتغلون بطريقة خيالية، أو يستخدمون الخيال في منتجاتهم الإبداعية الجميلة.
الشاعر العراقي الكردي فوزي الأتروشي استخدم الكثير من الخيال في شعره، وهو صاحب إنتاج غزير، إذ أن لديه عشرة دواوين وأعمال شعرية كاملة، ليس في شعره فقط، إنما أصدر الكثير من الأعمال، كمجموعة كتب سياسية، ومقالات أديبة نشرت في الصحف والمواقع الأدبية في الإنترنيت، حيث نجد في كثير من كتاباته خروجاً عن المألوف لخلق فسحة للمتلقي كي يعيش مع المنتج الإبداعي. يقول في أحد نصوصه:
ابتعدي عني قليلاً
فأنا لا أتحمل كل هذا الجمر
لا تصافحيني.. فيداي
حين تصافحيني تدخلان حالة سكر
لا تحدقي في عيوني
فأصاب بضربة عين ورعشة سحر
لا تحبيني كثيراً
فحبك كالبحر
وأنا لا أطيق السباحة في البحر
توظيف الخيال
وفِّق الأتروشي في توظيف الخيال بطريقة جيدة، وظل محافظاً على بنية النص، إذ ربط بين نصه وبين الخيال، وجعلنا نعيش معه لحظات تأمل عرفنا فيها مدى براعته في المزج بين الضربات الخيالية ومنتجه الأدبي، فكانت كتاباته أشبه بالواقعية المقنعة حين صور حبيبته كالجمر إذا ما اقتربت منه، أي أن إحساسه الداخلي جعله يتصورها جمراً وناراً، وأن حبها بحر يغرق فيه، وأن الشمس تنطفئ في عينيه.
كل هذه المشاعر جسّدها في داخل عاشق مغرم. نحن كلنا نعرف العشق ونمتلك أدوات اللغة، لكننا لا نستطيع التعبير عنها مثل ما يعبر عنها الشاعر، فنحن لسنا بشعراء، ولا نمتلك ذلك الإحساس الشفاف الذي يمتلكه الشاعر، وليست لدينا القدرة على توظيف الخيال بهذه الطريقة. وهذا ما يميز المبدع عن غيره، وقد كان العرب القدماء يقولون أن الشعراء يخالطون الجن، فيعلمونهم الكلام الغريب الذي لا يستطيع أي إنسان أن يقول مثله. ومن هنا جاءت تسمية (شيطان الشعر) الذي يوحي للشاعر كل قصائده، ويكون رفيق موهبته. ويذهب الجاحظ، ويردد الثعالبي ما يقوله، “إن الشعراء كانوا يدّعون أن لهم فحل شيطان يرون له قدرة كبيرة في الشعر.”
يقول الشاعر فوزي الأتروشي في إحدى قصائده:
وحين تنام أشعاري
وتطفأ نار أخليتي
وتصبح شمسي جسداً بلا نار
وحين تعود سيدتي
وترفض رغم ذلك العطش أمطاري
وحين أعود إنساناً
بلا اسم، بلا رسم، بلا دار
وصف جميل وخروج عن الواقع بروح تمردية، يمارس الشاعر فيهما الكتابة الشعرية، فهو يرى أن شمس جسده تصبح بلا نار إذا ما فارقته الحبيبة، إذ يعود كل شيء إلى طبيعته إذا عادت، والدلالة هنا أن حياته كلها مرتبطة بها، لذا نرى أن مخيلة الشاعر جعلته يخرج الأشياء من حجمها الطبيعي وخريطتها إلى فضاءات أوسع وأكبر مما كانت عليه، حين يصور لنا أن في داخله شمساً، ثم يقول إن التاريخ لن يذكرني، أي ان وجوده مرتبط بحبها، والفكرة هنا أن التاريخ يدخل الشعراء والمبدعين إلى الذاكرة، لكنه لن يذكره بسبب هجر حبيبته -بطلة القصيدة- التي ما انفك يذكر رموزها بحثاً عن دلالاتها، وقد عرفنا من كتابات الشاعر أنه يمتلك مخيلة جيدة يتحرك من خلالها، ويفتح العوالم ليدخلها في مشروعه الإبداعي.