معتصم الكبيسي.. على خطى آخر جنرالات الوهم

422

محمد طهمازي /

يوم قرأ الروائي السوريالي الفرنسي (أندريه بريتون) أحد أعمال الكاتب الآيرلندي (جوناثان سويفت) في ثلاثينيّات القرن العشرين، الذي حمل اسم (اقتراح متواضع)، وقدّم فيه حلًا لإنهاء المجاعة تلخّص في أن نقوم بالتهام الأطفال.. أطلق ضحكة ألم وقال “يا لها من فكاهة سوداء..!” وكلّما شهدت الأعمال الكوميديّة السوداء تراجعاً, لتحوّلها إلى أعمال سوداويّة مع الزمن, كان هناك من يأتي لإنعاشها عبر فعل سوداوي مبتكر يدخل مثل نصل طويل عميقاً في روح الوجود الإنساني..
بين عجلات (الهمر) الأمريكية الغازية و قوارب المهاجرين، هنالك كم هائل من دمى الكوميديا السوداء التي يكدسها معتصم، وربما أنه وجدها مكدّسة هناك، فقام بإعادة تصنيعها أو تدويرها في أعمال فنيّة تحمل خطاباً ساخراً إلى أعلى درجات الألم.
إننا نرى عملية ربط لا خلط، بين حروب العالم في القرن الماضي، التي تشترك في جملتها بالنزعة التوسعية وجنون العظمة وتغييب وإلغاء وجود الآخر، والاستهانة بالحياة البشرية، بل والطبيعة بحيواتها كلها. وهذا ما تجسّد في الضربات النووية الأميركية لليابان والأسلحة الكيماوية والجرثومية التي منحها المعسكر الاشتراكي لصدام حسين، وضرب القيم الإنسانية والأخلاقية عرض الحائط.. إنها سياحة ولهو مثل ضرب كرة غولف بيضاء على ظهر غواصة نووية صدئة!
إنه يقدّم لنا الجنون الذي يعمي البصر والبصيرة، لهذا يقوم بتغطية الرأس والعينين، أو بمعنى أدق ذوبانهما واندثارهما داخل البدلة والقبعة العسكرية حتى لا نكاد نرى منهما شيئاً إلا الأذن، أحياناً كدليل على كون صاحبها يسمع ويسمع، لكنه لا يعي ولا يفقه شيئاً مما يسمع، ولا يعتبر بعبرة ولا يأخذ بنصيحة.. وإن حصل وظهر جزء من الوجه فسوف تراه متجهماً بارداً متحجراً من دون أية ملامح تدل على إحساس وجه توقف عن إعطاء أي ملمح لأي تعبير منذ زمن بعيد، ولربما منذ الولادة.
إن الحاكم المسخ لا يصنع موهوبين ولا متميّزين، بل يصنع نسخًا عنه, مسوخًا مثله, سواء أكان على مستوى المنظومة السلطوية أو على مستوى الشعب.. وهو كائن لا مبدأ ولا قيم ولا أخلاق له، قادر على التلوّن والتحوّل، فيظهر لك بأقدام ثور وأيدٍ تشبه أيدي حشرة فرس النبي بخطافاتها التي تشبه السكاكين..
شخوص الكبيسي كائنات متخمة، أجسادها ممتلئة، كأن لها كروش لصوص معبأة بالسحت أو بلحوم البشر.. ولا بد من الإشارة هنا إلى استفادة معتصم من الإحساس بالثقل الذي تعطيه مادة البرونز وتكثيفه عبر كتل الشخوص السِّمان لمنحنا الإحساس بتوقّف الزمن والحضارة عند هؤلاء الذين يفكرون بمنطق بالٍ ويعيشون في منطقة خارج مسار التاريخ، لم يترك التطور في وعي الإنسان ومعارفه وأخلاقياته أي أثر فيهم.. ولو تأمّلت وقفاتهم ستجدها تشبه وقفات جنرالات الحروب العالمية التي حصدت ملايين البشر, ولو أمعنت النظر في جلساتهم على كراسي غرورهم, التي تتحوّل أحيانًا إلى مقاعد تواليت, لوجدتها تماماً مثل جلسات الولاة والأمراء والحكام والملوك في العصور القديمة والمظلمة.
منحوتات معتصم تجسّد الجلادين المجانين المستمتعين بدق طبول الحروب والغرور، لكنها لا تظهر ضحاياهم إلا في حالات نادرة على شكل مهاجرين كمثال, وهو -في رأيي- يعتقد أن تسليط الضوء على المجرم لا على الضحية هو الحل.. لسببين رئيسين, الأول هو أن هنالك مجرماً يقف أمام أهرام من جثث الضحايا وحطام أحلامهم, واحد يقف أمام لا الآلاف بل الملايين من الضحايا.. وأنت حين توقف هذا المجرم عند حده سوف تنقذ الملايين, فالانشغال بالمسبب خير من الانشغال بالنتائج.. السبب الثاني هو ما الفائدة من استدرار العطف أو المتاجرة بآلام الآخرين، وثمّ أمر أكثر أهمية وجدوى هو تسليط الضوء على أوجه جنون من صنع تلك الآلام بشكل ساخر يستهين بكيانه المريض وانحرافاته وعقله المليء بالزوايا المعتمة.. يقول (نك كانون) إن “من المفترض أن يثير الفن الجدل ويجعل الناس يفكرون”.
إنني أعتبر معتصم الكبيسي من النحاتين القلائل المتمكنين من تقنياتهم النحتية بمستوى يدعم, إلى حد بعيد, أفكاره وطريقة التعبير المادي عنها وأسلوبه في تنفيذ أعماله، الأمر الذي منحه تميّزًا في نتاجاته الإبداعية.. وهو منغلق على موهبته بشكل كبير، يبتعد فيها عن النقل والتقليد قدر الإمكان، على عكس غالبية النحاتين الذين يستندون في أعمالهم بنسبة 90% إلى النقل والتقليد!