السيرة والعنف الثقافي دراسة في مذكرات شعراء الحداثة بالعراق

1٬053

د.علاء حميد  /

ظلت الثقافة العراقية خارج الفحص والتحليل حتى تسعينيات القرن الماضي، إذ أخذت تظهر أكثر من دراسة تحاول تفسير التوجهات التي شكلتها وأخذت تدفعها نحو تبني أنواع أدبية معينة، باتت تمثّل النموذج الحاضر في التعبير عمّا تنتجه، ولهذا يأتي كتاب الدكتور محمد غازي الاخرس “السيرة والعنف الثقافي” دراسة في مذكرات شعراء الحداثة بالعراق، الصادر عن سلسلة دراسات فكرية في جامعة الكوفة عام 2017، ضمن هذا التوجه الذي يبحث في الأنساق الثقافية التي سيّرت نتاج شعراء الحداثة في العراق، ويكشف المخبوء والمسكوت عنه، والمضمر والقابع في اللاوعي كما يذكر الأخرس في مقدمة كتابه، وكأنه يحيلنا إلى انتباهة نقدية اعتدناها وهي قراءة النتاج الأدبي خارج متبنيات صاحبه، بحيث يمسي هذا النتاج هو التعبير المباشر لما نريد فهمه من الثقافة والمجتمع.
إن عمل الدكتور محمد غازي الاخرس هو انتقال من النص إلى منتج النص وما يحمله من تأثيرات اجتماعية ونفسية جعلت منه يميل إلى جهة على حساب أخرى، كما أن استخدام سيرة الحياة في بحث مذكرات هؤلاء الشعراء، هو تأكيد على أهمية الدراسات الثقافية في تفسير المنجز الأدبي العراقي، إذ بقي تناول هذا المنجز ضمن آليات النقد الأدبي دون فسح المجال أمام العلوم الاجتماعية، التي وفرت منهجيات ووسائل تمهد للحصول على فهم أعمق من ذي قبل ولا تكتفي فقط بالنص ومحتوياته ودلالاته، بل تتعدى ذلك إلى مراجعة سمات كاتب النص وقناعاته الاجتماعية والسياسية، ربما حكمت قراءة نتاجات الثقافة العراقية القراءة ذات البعد الآيديولوجي الذي انحصر بين اليمين واليسار، يخالف الأخرس هذه القراءة بالالتفات إلى النسق الثقافي الذي وقع تحت تأثيره الشعراء الذين درسهم، ولذلك يُعرّف لنا النسق الذي تبناه في دراسته، فالنسق مفهوم “يرد في علم اللغة مثلما يرد في النقد الأدبي ومناهجه، فضلاً عن حضوره في الانثروبولوجيا والفلسفة والجماليات ومناهج ما بعد الحداثة وصولاً إلى النقد الثقافي الذي جعله مرتكزاً له”، كما يراجع الأخرس الدلالة اللغوية النسق الذي يعنى “تتابع الشيء، وكلام نسق: جاء على نظام واحد قد عطف بعضه على بعض”، ثم ينتقل الأخرس من الجانب اللغوي لمفهوم النسق إلى جانبه الاصطلاحي الذي يشير إلى النظام.
وأما فن كتابة السيرة فهو حاضر في الأدبين العربي والغربي، والسيرة متعلقة بسرد الآثار والأخبار التي كان لها الأثر في تغيير أحوال الناس والمجتمعات، يعود ظهور السيرة وكتابتها إلى اهتمام الجمهور من الطبقات الوسطى بمعرفة ما تركته الحروب من أثار. الاطلاع على السيرة يوفر للقارئ معرفة أحوال الناس في مراحل تاريخية معينة، ولهذا “يحتوي أدب السيرة؛ اليوميات والرسائل الشخصية والاعترافات ثم السيرة الذاتية والسيرة الروائية”، وبذلك تصبح السيرة نوعاً أدبياً قريباً من المذكرات التي “تُعرف بأنَّها سيرة ذاتية تنقل تجارب الماضي المعيشة إلى الناشئة وتعتمد نظرة توليفية للأحداث تسمح بإعادة ترتيب الوقائع بما يوافق رغبة الكاتب.
يقع كتاب الاخرس في ثلاثة فصول، يضم كل فصل مباحث ثلاثة؛ تناول فيها كل شاعر وسيرته الاجتماعية، وسبق هذه الفصول والمباحث شكر وعرفان لمن كان لهم مساهمة في دعم كتابه، ثم ألحقه بمقدمة وتمهيد نظري عن النسق والسيرة والاعتراف، في الفصل الأول ومباحثه عرض سيرة الشاعر العراقي المعروف بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، البداية من السياب لأنّه مؤسّس الحداثة الشعرية في العراق، فهو ارتحل في عدة محطات فمن الشعوبية إلى الشيوعية ثم بيان تأثير صورة الفلاح على ذهنيته، ليصل معه إلى اعترافه بخطأ الاقتراب من الآيديولوجيا مع أنها كانت حاضرة في عصره، ومع البياتي فسمات الفتوة والنرجسية والترحال كانت هي المهيمنة على نتاجه، ومع نازك الملائكة اختلف الحال لأنها أنثى أنتجت شعراً في سياق شعري كان للرجال فيه حضور طاغٍ، ولذلك رصد الاخرس نازك من منظور الاختلاف والتشابه بين الإناث والذكور وتعاملهم مع البيئة الاجتماعية وإنتاجهم الشعر، وأما الفصل الثاني فيستعرض شعراء أصبحوا علامة ثقافية على جيل اختص بحضور الآيديولوجيا واختلافهم حولها، فهناك الشاعر فاضل العزاوي المعبّر عن تكون العنف وسرديته التاريخية مع تحول النظام السياسي في العراق من ملكي إلى جمهوري، لقد وسّع الدكتور محمد غازي الأخرس من مساحة رصده ليشمل كل من حمل وعبر عن آيديولوجية وانتماء؛ سواء أكان فكرياً أم آيديولوجياً، مبيناً أنّه بوجود متغير الآيديولوجيا فإن الصراع بين هؤلاء الشعراء قد امتزج فيه الشخصي والفكري والآيديولوجي، وإن عدم الفصل قد أفقد المنجز الشعري أثره على المتلقي وأبقاه في مستوى القراءة والاطلاع.
وأما الفصل الثالث، الذي حمل عنوان ” الثقافة المضادة: مرويات الهامشيين وأبناء الجماعات الفرعية، فيضع فيه الأخرس نماذج من شعراء يمثلون ثقافة مضادة، كما في نموذج الشاعر حسين مردان، والشاعر عبد القادر الجنابي، إذ رأى أنهما يحملان سمة الهامش وجماعة فرعية داخل النسق العام للثقافة العراقية. يحدّد الاخرس فهمه لهذه النماذج عن طريق طرح معنى الهيمنة الدال على تسلط ثقافة أو سلطة أو جماعة.
وهنا يسعى الأخرس إلى دفع هذه المفاهيم لكي ننتبه إلى أهميتها في تفسير المنجز الأدبي العراقي.