الكَاط .. حين انتصر مسعود عمارتلي لرجولة تسكن روحه

770

د. سلمان كيوش/

منذ سمعتُه أوّل مرّة في السبعينات ومسعود عمارتلي لا ينفصل عندي عن الكاط. هو يشبهه، ففيه امتزاج بين الحموضة والحلاوة، لاسيما في جذوره التي تطول وتقصر تبعاً لارتفاع الماء وانخفاضه في الهور. لم يقترن بالكعيبة والحلبلاب برغم جمالهما، لأنهما لا ثنائيّة فيهما كما الكاط. ولكي تكتمل صورة التماهي في الطعوم ينثر الناس الملحَ عليه ويأكلونه.

قد أعيدُ كتابة هذا الموضوع بعد أن يأتيني الطروش بباقة كاط كما أوصيتُهم، ذلك لأن ما أبحث عنه من مطاوعة في ثنائيّة الدلالة في الكاط قد تتغيّر بعد أن أذوقه. سمعتُ عنه كثيراً، لكن السمع وحده لا ينفع أحيانًا. ذقت الخرّيط بطلاقة الجوع حيناً والبَطر حيناً آخر، فلم يصلني شيء من مسعود فيه، لا أثر فيه منه برغم أنه نتاج للبردي المجاور للكاط في شرع الكواهين وسننها. قالوا لي هو يشبه الريحان، ومع هذا سأفتح الباقة، وأستلّ منها هروشها وبجانبي مسجّلي، يبثّ على قلبي أغاني مسعود. أما الملح فلن أحتاجه لأني لستُ بوجهين، فصوتُه يحيلني إلى رماد نقي بوجه واحد. هذا غير أني أسمعه وأنا أعرف أنه تراب ورماد الآن.

بين حموضة الأنثى في نفسه، وحلاوة الذكورة، صان مسعود هويّته ووجوده، فوضعَ العكال على رأسه والكاط قِبلته، واستقتلَ دفاعاً عن غشاء بكارته ضد اثنين من رشّاكة الشيخ محمد بن عريبي وهزمهما بقندِ ذكورته المفترضة. وهرب ليلًا ليغادر أمّ الطوس وعلى لهاته حموضة الفزع لأنه علم بجموح رغبة الشيخة فتنة، زوجة الشيخ ابن عريبي، بتزويجه، بوصفه أنثى، من واحد من حاشيتها. ولو تمّ هذا الزواج سيضطرّ مسعود إلى العودة إلى “سْعَيْدة بنت حمود بن عبّود بن دبيخي”، وسيخلع عكاله لأنه سيغدو بلا معنى لو زال عنه غشاء بكارته، أو حارس رجولته القويّ برغم رقّته. رأى مسعود في العكال غشاء بكارة آخر على رأسه، كذاك الذي بين فخذيه، وفيه حلاوة تفوق ما بالشهد.
ومن مقاهي العمارة انتصر لرجولته وعكاله بشكل نهائي حين صدح بلوعته في “خويه محمّد يا محمّد” ليُذكّر صديقه الشيخ ابن عريبي أن حلاوة الكاط أوضح. لكنها ظلّت رجولة منقوصة، يتقاطع معها ثديان نافران عرف كيف يأسرهما بحزام من صنعه، ولكن ما الذي يفعله مع خذلان الشَّعر الذي غاب عن وجهه وجسده؟ ومع هذا لم يخطئ في ضمائر اللغة لجنسه الذكوريّ أبداً، ذلك لأن ضمير وفائه للرجولة أقوى، فلم يقل:”آنه مْعدَّلة، أو مَراجليّة.” كان يقول بثقة:”آنه معدّل، ومَراجلي.” ومع هذا لم ينفك السيّد حمد العلاك، الملحّن الجميل، من تذكيره بأنثاه مازحاً، فما أن يعلن مسعود عن اشتهائه لطعام ما حتى يبادره: وِلَك بس لا اتنسّه؟! وأعاد الجملة نفسها عيسى بن حْوَيْلة، المطرب العمارتلي الكبير، في بغداد، حين اشتهى مسعود، ذات اغتراب، كاط!!

حيرة الوجود ماثلة وثابتة، فما بين جسد تحكمه سنن الأنثى بيولوجياً، ونفسٍ عالية الهمّة في رجولتها اضطربت روح مسعود. نعم، نجح في إحكام وضع العكال على رأسه، وطرَّ دواوين الرجال، أعتى الرجال، غير أن ثمة ما ينقصه دائماً. فلدى الرجال ما لا يملك! لذا أظنّه كان يكثر من النظر في مآذن العمارة وبغداد ومدن أخرى كثيرة. هو رجل في الهواء الطلق والشمس والنور فقط، لكنّ شكّه كبير برجولته في عتمة الغرف المقفلة حين يطالع الجرح الكبير بين فخذيه، ولو أُقفلتْ فعليه وحده فقط. اكتمال الرجولة يعني الشغف بامرأة تعدلُ الوجود، وتمنحه المعنى. فهل نجحتْ چاملة وشنّونة في أن تكونا معه امرأتين كما تمنّى، تكمّلان دورة وجوده المنقوصة أصلاً، أم أنه معهما امرأة ثالثة في الظلام؟! لن يكون بمستطاعي، وبمستطاع أحد غيري، الإجابة عن هذا السؤال. وثمة سؤال آخر أظنّ أن مسعود فكّر فيه وهو ينتقي الطازج من عيدان الكاط أمامه: حين أموت، هل سيذكّرني الدفّان بديني وربّي ونبيّي وأئمتي بوصفي امرأةً أم رجلًا؟ هل سيكشف عن قلبي أم سيكتفي بعورتي كي يقرّر؟ أظنّه كان يزيح ثقل هذا السؤال وغيره بهدوءِ الموقنِ بألّا معنى بالانشغال بمستحيلات الوجود والعدم ما دامت مرارة الموت ستُسقط عنه الانشغال بغيرها.

ولكي يواصل التذاذه بالكاط يُنهي أزمته كعادته بالإقرار الكبير: الميّت شمدريه؟!! ثم ينشغل حدّ الذهول بلحنٍ جديد لأغنية قادمة، يبدأ بصورة له وهو يغمض عينيه كمن ينزوي أو يختبئ أو يهرب أو ينطفئ، مستهلُّها يبدو جميلاً:

يا نجم بسّك عاد اكطع الخوّة….

ما تدري بيّه شصار كلبي تجوّه.

چيف البصر يعكوب، بيّه الدهر خان؟!

كان هذا في واحدة من ليالي العمارة الباردة. في صباح اليوم التالي سيطلب من نجم أو يعكوب أن يذهب لأم الطوس ليجلب له من هناك باقة كاط كبيرة ليتمّ على وقعِ الطعم الحامض ـ حلو بقيّة الأغنية.