الموت يخطف سلمان داوود محمد من منصة الشعر

443

يوسف الحاج راضي /

غادرتنا يوم الأحد 29 آب المنصرم ابتسامة عراقية خالصة، وقلب إنسان ترافقه المشاكسة والاعتداد بالنفس، وضمير شاعر لا يختلف اثنان على شاعريته الفذة، في جميع مجاميعه الشعرية، سواء في أولها “غيوم أرضية” التي أصدرها في العام 1995، أو الثانية في العام 1996، أو الثالثة “ازدهارات المفعول به”، تجده تجربة شعرية منفردة بقصيدة النثر، ذلك لاستخدامه المفارقة والتساؤل المشاكس في طرحه للنص.
إنه الشاعر سلمان داود، الصادق حد الإدمان في عشقه للعراق، مواقفه وقصائده الكبيرة والكثيرة ما هي إلا دليل واضح وفاضح لجنونه بمحبة الوطن. في ديوانه الأخير “ازدهارات المفعول به”، ينحت لنا بإزميل الإبداع نصباً للقلق الذي يعيشه في خشيته على الوطن والمواطن في ظل الانكسارات والخسارات المتكررة التي لازمت شعبنا الصابر، فكان الترجمان الحقيقي بنبوءة شاعر لما حدث وسيحدث، فهنيئاً لنا بك ويا حسرتنا على فراقك أبا عماد، يامن كنت تسعد قلوبنا بضحكتك العالية التي تعقب كل طرفة في جلساتك الجميلة.
حريق القميص
موقف الشاعر الذي لم ولن أنساه ما حييت، بعد التفجير الإرهابي الذي طال شارع المتنبي، حين ذهبنا أنا ومجموعة من الشعراء والفنانين بعد يومين من اغتيال الشارع والشاعر المتنبي لنرى، بقلوب حائرة وعيون دامعة، حجم الخراب الذي حلّ بالشارع وبأصحاب المكتبات الذين ذهبوا قرابين استشهاد في موقع يعد عاصمة للثقافة والأدب والفن في البلاد، وجرحى من الأصدقاء وحرائق كتب اختلط فيها الحرف العربي والكردي والتركماني والسرياني، هنا تشارك في الحريق كتاب لأنستاس الكرملي مع شوارد المتنبي الشاعر، هناك أبو نواس يذوب حريقاً مع عبد الله كوران، هنا أولاد الشابندر الأربعة وحفيده التهمتهم نيران الحقد والكراهية والظلامية التي وازت إجرامية هولاكو في إحراقه للكتب، جميعنا بكينا ما حدث بقصائد دامعة، لكن الشاعر والإنسان سلمان داود لم يتحمل تلك المأساة، آنذاك حرنا، هل نبكي الشارع أم نبكي على نحيب وصراخ الشاعر الذي صدمه المشهد فقطع أزرار القميص كأمٍّ فاقدة لوحيدها ثم قام بإحراقه تضامنا مع حرائق المتنبي ليبقى عاريَ الصدر مرتدياً صِدقه وعشقه لعراقيته، فكان “حريق القميص” أجمل القصائد التي ألقيت في التأبين يا أبا عماد، ولعل صدمة ذلك الحدث المأساوي كانت بداية لاستعمار ذلك الوباء الخبيث لجسدك الطاهر يا فقيد جميع من عرفوك.
سرعة البديهة عند الراحل
يمتلك سلمان موهبة الرد السريع والمشاكس، سواء في جلساتنا أو في الحوارات التي أجريت معه صحفياً وإعلامياً، ومن حوار أجرته معه “جريدة المدى” أذكر لكم مايؤكد ماذهبت إليه عن سرعة البديهة في الرد :
“المحاور: بماذا أنت منشغل الآن؟
الشاعر: منشغل الآن بالإجابة عن هذه الأسئلة.
المحاور: ماهو آخر عمل لك، وماذا تخطط للمستقبل؟
سلمان: كتابة رواية “الجار الثامن” للتخلص من الجيران السبعة الموصى بهم ومن المستقبل.
المحاور: شخصية من الماضي تتمنى اللقاء بها اليوم؟
أبو عماد: العراق.
المحاور: ماذا تشاهد اليوم؟
الراحل: أوقد التقاويم لأشاهد رماد العُمر.
المحاور: أمنية لم تحققها حتى الآن؟
الفقيد: استعادة القدرة على التمني.”
هذا هو الراحل، حتى في جلساته مع الأصدقاء، بحيث يكون محور الجلسة مهما تنوع الأصدقاء في دراساتهم وشهاداتهم العليا، فعلى الرغم من أن تحصيله الدراسي لم يتجاوز السادس الأدبي، لكن، شئنا أم أبينا، كان سلمان الموسوعة الرافدة لجلّاسه في شتى أنواع المعارف، لم ينل المناصب الإدارية التي حصل عليها في وزارة الثقافة عن فراغ، لكنها جاءته مطيعة لقدرته على التعايش معها والنجاح والتألق فيها، فهو رئيس تحرير “مجلة آفاق الأدبية” لأكثر من سبعة أعوام، كما أصبح سكرتيراً لتحرير “مجلة الأقلام” الفصلية التي تعنى بالأدب والمعرفة، كذلك مسؤول شعبة تسويق الكتب الإلكترونية والورقية، ولد في بغداد وتخرج في إعدادية نقابة المعلمين المسائية / الفرع الأدبي ، كُتب عن مجاميعه الشعرية العديد من الدراسات النقدية بأقلام أهم النقاد والأدباء، ولم تأت تلك الكتابات من مجاملات لصديق، لكنها وبشهادة الجميع جاءته عن استحقاق وجدارة.
نعي اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين
أول من نعاه اتحاد الجواهري بحرقة وألم، كيف لا وهو العضو الفعال فيه ليلحق بركب الراحلين من الأدباء وهو في قمة عطائه، مبيناً في نعيه أن أعماله الشعرية طبعت لمرات عدة، وأكد بيان نعي الاتحاد: “تنفتح قصيدته لتجذب المسرح والسينما والأجناس الفنية المجاورة، لعدم توقفه عند حدود البلاغة اللغوية الكلاسيكية، فسلمان من مبتكري الموقف الشعري لغوياً وأدائياً، وما لا ينساه له الجمهور، المحب له، مواقفه وهو يطلق الحمائم من صدره في أحد المهرجانات.” ويختتم الاتحاد نعيه وهو يودع كوكباً آخر من سماء الإبداع: “وداعاً أبا عماد.. وداعاً يا سادن الباب الشرقي.. وداعاً أيتها السيكارة الملوّنة بالعطر.. وداعاً أيها المختلف المشاكس الصعب الأصيل.. وداعاً فقد حققتَ نبوءتكَ حين قلت: – أنا شاعرٌ ولد في بغداد وسيموت فيها.. تبكيك بغداد وكل المدن، فرحيلُ شاعر مثلك يعادل رحيل الهواء في ندرة المتنفّس النقي.”
اللقاء الأخير
زارني الشاعر والإنسان والصديق العزيز جداً في مقر مجلة “بين نهرين الثقافية” التي كنت مدير تحريرها -قبل أن تغلق- في مقر شبكة الإعلام العراقي، وتجاذبنا الحديث مستذكرين العديد من الأحبّة والأصدقاء، الأحياء منهم والأموات، كانت الابتسامة تعلو محيّاه على الرغم من شكواه لكثرة العلل التي تنهش جسده، ثم طلب مني الخروج معاً إلى الفضاء والحديث بحرية عن معاناته بالعمل، ووجدنا أنفسنا داخل مطعم مشويات شعبي في منطقة الكريمات، ثم ذهبنا إلى مقهى شعبي في المنطقة ذاتها، بعدها ودعته ليكون الوداع الأخير مع شاعر وإنسان وصديق لا يمتلك قلبي غير أن يقول له ماقاله الشاعر ابن معصوم :
تَفديك لو قبِلَ المنونُ فِداها….
نَفسٌ عليكَ تقطَّعت بأساها
يا كوكباً قد خرَّ من أفق العُلى…..
في لَيلَةٍ كَسَت الصباحَ دُجاها
كانَت حياتُك للنواظر قرَّةً …..
وَاليومَ موتُك للعيون قَذاها