في مهرجان الفنون الإسلامية انسجم الشكل مع المضمون فتوهجت الأفكار

106

زياد جسام/
شهدت السنوات الأخيرة انقلاباً كبيراً على المستوى الإبداعي، من حيث صناعة الأعمال الفنية وإخراجها، إذ سادت اتجاهات كثيرة في الرسم والنحت والتصميم والعمارة وغيرها.
فقد أعيد انتاج الفن وفق تأثيرات واستعارات بين المادة والملمس وحتى المفهوم، كذلك أصبحت الخامات اليوم هي الغاية في صنع العمل الفني، بعد أن كانت فيما مضى من تاريخ الفن وسيلة لإيصال فكرة معينة.
هذا التحول الثقافي للمنتج في الفن المفاهيمي وفنون ما بعد الحداثة، تأثرت به دول العالم المتقدم، وبدأ التنافس بين الفنانين على طرح كل ما هو جديد.. فالفن التشكيلي ينمو ويتسارع بسرعة المعلوماتية والتكنلوجيا، وقد لوحظ ذلك من خلال الأعمال الحديثة التي تنتج بيد المبدعين المعاصرين. ومن الدول التي اهتمت بهذا النوع من الفنون هي دولة الإمارات العربية، إذ كان ذلك جلياً من خلال (مهرجان الفنون الإسلامية)، الذي يقام في الشارقة بشكل دوري، وقد سنحت لنا الفرصة للاطلاع على مجموعة من الأعمال المشاركة في فعاليات هذا المهرجان في دورته الـخامسة والعشرين تحت عنوان (تجليات)، الذي أقيم مؤخراً في منطقة الفنون بالشارقة، واعتبر أكبر مهرجان للفنون في العالم.
شارك في مهرجان هذا العام خمسون فناناً من خمس وعشرين دولة، وتوزعت المشاركات على دول عربية، منها العراق ومصر والسعودية وفلسطين والكويت وسوريا ولبنان والبحرين والأردن، بالإضافة إلى مشاركات من إسبانيا وبولندا وتركيا وكولومبيا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والأرجنتين.
المعروضات يبدو أنها أنتجت عن طريق تجميع بعض الأشياء الموجودة في حياتنا، كشاشات التلفزيون أو الحواسيب أو أي منتج آخر، وربطها بأجهزة أو مكونات أخرى لإنتاج أعمال بصرية عصرية مرتبطة بقيم جمالية حسية سريعة التنفيذ.
ففي الكثير من البلدان نجد منحوتات ونصباً كبيرة مصنوعة من خامات أعيد تدويرها بشكل مختلف، مثل مخلفات السيارات أو الحاسبات أو المعادن أو البلاستك أو الحجر أو أي شيء آخر.. التي تتحول الى أشكال هندسية ونصب مشكّلة بطرق إبداعية تستوقف المتلقي وتبهره وتشده للتمعن فيها.
إعادة انتاج
لا شك في أن إعادة إنتاج هذه الخامات وتحويلها الـى أعمـال تشكيلية مهمة، تتطلب من الفنان أن تكون لديه موهبة حقيقية، بالإضافة الى الحرفية العالية في التعامل مع الخامات وتطويعها، فهناك أسماء لا تعد ولا تحصى من الفنانين والفنانات الذين حققوا حضوراً في الساحات الفنية العالمية من خلال استمرار هذه المواهب، حتى أن بعض هؤلاء الفنانين كان ينتج أعماله بشكل كلاسيكي متأثراً بالتطور الحاصل على عالم التشكيل، وأخذ يفكر بشكل مختلف لكنه ناجح، ومنهم الفنان الفرنسي (ماتيو بوريس)، الذي تميزت أعماله بكبر أحجامها، وهي عبارة عن لوحات شبه كلاسيكية تعتمد في فكرتها على إعادة إنتاج الخامة وتغيير استخدامها، فقد نفذ مجموعة لوحات مرسومة على سجادات أرضية حقيقية مزخرفة، وربما تكون مستعملة، كما قام برسم شخصيات عليها، مستخدماً الزخارف الموجودة لتخدم العمل، لذا بدت أعماله وكأنها تعتمد الابتكارات والتراكيب ذات الطابع الجمالي الحديث، وما يميزها هو التوظيف الأفقي أو العمودي، وتوظيف الشكل واللون والمساحات من خلال لغة حديثة مجردة.
بيادق الشطرنج
كما شارك في المعرض الفنان المصري المقيم في إسبانيا (أحمد قشطة)، الذي يمكن أن نسمي أعماله بالمنحوتات، إلا أنها أشكال مجسمة مأخوذة من الحياة اليومية، المعروفة لدى الجميع، وهي بيادق الشطرنج، إذ وظف هذه الخامات وركّبها بطرق مختلفة، ومن الصفات المميزة لعملية النحت الخاصة به هي أولية المواد التي يستخدمها، عبر نهج تجريبي في استخدام المواد والأشكال التي تشكل العالم من حولنا، فهو كثيراً ما يطبق أساليب مثل (الرص) و(الصف) والتكديس في طبقات، ما ينتج ابتكارات عفوية غير متوقعة، إذ يمكن للمتلقي أن يرى في أعماله وضوح الامتدادات الأفقية التي تشبه الى حد كبير تلك الزخارف الإسلامية التي اشتهرت بها بعض الدول العربية والإسلامية تحديداً، فتراها منسابة مألوفة، لكن في الوقت ذاته لا يمكن تمييزها جيداً، كما أن أعماله التركيبية التي يركز عليها كثيراً في أعماله، سواء أكانت من البلاستك أو الرخام أو الخشب، أصبحت تقليدية بالنسبة لنتاجاته الحديثة الأخيرة، إذ استخدم في هذا المعرض تحديداً قطع (بيادق الشطرنج) المعروفة، التي لها استخدام آخر مختلف تماماً.
فقد يجمع العمل الواحد عشرات او مئات القطع المشكّلة في تراص واحدة مع الأخرى لينتج منها أشكاله الإبداعية وبأحجام كبيرة مختلفة تكون أشكالاً انسيابية كأنها عدت لتكون زخارف (الأرابسك) المعروفة لدى المصريين تحديداً.
سحابة روح
أما الفنانة الكندية (شياو جينغ يان)، فقد شاركت بعمل مفاهيمي أسمته (سحابة روح)، وهو عبارة عن كرات صغيرة تشبه حبات اللؤلؤ معلقة بخيوط شفافة تشكل تكوينات كأنها غيوم بيضاء في فضاء قاعة العرض الواسع، وهي بالفعل تجعل المتلقي يتساءل ما إذا كان الشكل يرتفع الى الأعلى أم ينساب الى الأسفل، وقد اختارت الفنانة هذه الكرات على وجه التحديد للتأمل بين بيئة العمل والعالم من حولنا بمعالجتها الإبداعية، وداخلت الشكل مع المضمون لتجعلهما في انسجام تام لمـصلحة الشكل العام للتكوين.
كما قدمت الفنانة السعودية المقيمة في أميركا (مريم طارق) عملاً تركيبياً ذكياً يتفاعل مع الإنسان، أطلقت عليه اسم (الوعي الجمعي) وهو مكون من قبة كبيرة وضعت على الأرض يصل قطرها الى أربعة أمتار وارتفاعها متران، تكونت هذه القبة على شكل سداسيات زخرفية مترابطة، في كل شكل منها هناك شاشة دائرية كهربائية، يظهر فيها شكل يشبه البرق الذي يحدث في السماء أيام الشتاء، وكلما لمس المتلقي هذه الشاشات تنتقل الى يده تلك الذبذبات وكأنها تصدر من يده، تفاعل الجمهور مع هذا العمل بشكل كبير، وكان التنفيذ موفق جداً من ناحية الخامات والشكل والزمنية التي يمكن أن يأخذها..
عناصر الجمال
كذلك كانت هناك مشاركات أخرى عديدة لفنانين وفنانات من مختلف دول العالم، أكدوا على هذه النتاجات التي تجعلنا ندرك أن كل أشكال التعابير الإنسانية يستطيع الفنان من خلالها أن يعكس ما في دواخله، لكن الصعوبة تكمن في كيف يستطيع الفنان أن يوصل طرحه الإبداعي بالاتجاه الصحيح من خلال استخدامه لإحدى هذه الخامات الكثيرة. هؤلاء الفنانون أحاطوا أعمالهم الفنية بعناصر الجمال التي اقنعوا بها المتلقي، علماً بأن هذه العناصر كثيرة وموجودة حولنا في كل مكان، لكنهم نفذوها بحيث بدت للجمهور وكأنها السهل الممتنع، معتمدين على المنطق البصري الأقرب الى حقيقة الأشياء، والتخلي عن الأوهام البصرية لمصلحة كتل حقيقية ملموسة يتعايش معها المتلقي ضمن بيئة العرض التشكيلي، وذلك بخلق نتاج بصري جمالي فكري، أحالوا من خلاله المتلقي الى مناقشة خامات العمل الفني ذات الوجود الثلاثي الأبعاد قبل كل شيء، كما يمكن للمتلقي التجوال حول العمل والاستمتاع البصري.