قراءة في أدب.. الأسطورة البابلية الخالدة

438

عدي العبادي /

من سطور المقدمة لملحمة جلجامش تتضح لنا أروع صور الإبداع، ولا أقصد هنا الصور الفنية فقط، بل حتى التربوية والأخلاقية، فالملحمة عبارة عن نص أدبي اجتماعي فكري جمع في طياته كل المعاني الجميلة للحب والصداقة وفعل الخير وانتصار الإنسان للروح الإنسانية، مع المحافظة على وحدة النص الإبداعية.
وقد أعطى النص أبعاداً فكرية ناضجة، فبعد أن يشرح المؤلف بطش جلجامش الملك وظلمه وكيف أنه كان يغتصب أي عروس قبل دخول زوجها عليها، وظلمه لرعيته، نجد أن خيال المؤلف الخصب قد ابتكر طريقة جميلة، وهي عقد اجتماع للآلهة وتباحثهم في سبيل تخليص الناس من الظلم وكيف أن الإله هو الذي يفكر في عباده ولا يقبل بظلمهم حتى من جلجامش الذي كان ثلثاه على شكل إله والباقي بشر، أي تجري فيه دماء الآلهة المقدسة. أما الصورة الأخلاقية الثانية التي تجسدت بحب جلجامش، بطل الملحمة، لصديقه أنكيدو، حين رفض دفنه، وعندما تعفنت جثته قال لهم “ادفنوه أنتم فأنا لا أقوى على دفنه.” أي حب هذا الذي ترسخ في داخل ملك طاغية كان لا يعرف أية لغة غير القتل وانتهاك الأعراض، وكيف أصبح هذا الوحش الكاسر عاشقاً يحمل كل هذه الشفافية، وتطل علينا الصورة التربوية الثالثة، وهي الأهم في كل الصور والمحور الأساسي للعمل، حين يشاهد جلجامش السور الذي بناه حول المدينة ويعرف أن فعل الأشياء العظيمة والمنجزات التي تخدم الناس تخلد اسمه وتبقيه محفوراً في الذاكرة.
صور فكرية
لقد كانت ضربة إبداعية بمثابة رسالة لكل إنسان بصورة عامة، وكل ملك أو حاكم بصورة خاصة، فحين عاد جلجامش من رحلته الطويلة الشاقة وهو محبط يائس بعد أن فقد عشبه الحياة التي غامر من أجلها وترك المملكة، وقد حصل على مراده، لكن الحيّة سرقت منه عشبه الخلود. ولهذا كان البابليون يقولون إن الحية لا تموت، لأنها أكلت عشبة الحياة، وإن تبديلها جلدها كل سنة يعني مولداً جديداً لها.
كان الملك اليائس قد فقد آخر أمل له في الخلود، وعرف أن نهايته ستكون كمصير صديقه أنكيدو، لكنه حين وصل إلى أوروك ورأى السور العظم الذي بناه كي يحمي المدينة والناس من الغزو، انعكست صورة فكرية في داخله، فيقول مع نفسه إن “هذه المنجزات العظيمة هي التي تخلدني بدل الظلم والطغيان.” ومن هنا يطلق مشروعاً إصلاحياً واسعاً ويقوم بالتغييرات، ليصبح جلجامش إنساناً آخر بكل المقاييس، يفعل الخير ويتعامل بطيبة، ويتوجه إلى بناء مشاريع كثيرة.
إن الكثير من الحكام والملوك كانوا السبب في جلب الويلات والمصائب على شعوبهم والدمار والموت في حروب رعناء، لا لشيء، بل من أجل بناء مجد وتاريخ، ولو نظرنا إلى كثير من الحروب التي تسببت بمجازر وهلاك أمم، سنجد أنها وقعت لأسباب واهية، وكان وراء استمرارها عناد وكبرياء بعض الحاكمين. أما الشعب المغلوب على أمره، فإنه هو الذي يدفع الثمن. وخلاصة العمل تنهيه الملحمة بموت جلجامش وحزن مدينة أوروك كلها على الملك العادل، بعدما كان الجميع يكرهونه ويتمنون الخلاص منه، لكنه بعد التغير أصبح محبوباً، وهنا تظهر لنا صورة ثانية، وهي حزن شعب بابل، أي أن كل شعب من الممكن ان ينسى أفعال الحاكم إذا ما غير سياسته وأصلح وتمكن من فتح صفحة جديدة.
بلاغة الحبكة
إن كل هذه القيم الرائعة التي جسدتها القصة نجد فيها روعة التعبير، وبلاغة الحبكة الأدبية، ودقة الوصف عد إنسان الرافدين، منذ عصر ما قبل التاريخ، فحين يصف الكاتب جمال وهيبة وقوة جلجامش، يقول في النص الطيني الأول عن الملك: “هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا، هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء. معاً (سيد) الحكمة الذي بكل شيء (تعمق). رأى أسراراً خافية، وكشف أموراً خبيثة، وجاءنا بأخبار عن زمان ما قبل الطوفان. مضى في سفر طويل، وحل به الضنى والإعياء، ونقش في لوح من الحجر كل أسفاره. رفع الأسوار لأوروك المنيعة، ومعبد إينانا المقدس، العنبر المبارك. انظر، فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس. وانظر، فجداره الداخلي ماله من شبيه. تلمس، فعتباته (قد أرسيت) منذ القدم. تقرب، فإينانا لعشتار، لا يأتي بمثله ملك، من بعد، ولا إنسان.”