كليمانس محمد دلا: سقط الحزن على حروفي يوم بكت بغداد

746

 تبارك البهادلي/

دمشق المكلّلة بصوت فيروز هيَ موطن قلبيّ وباعتها وضحكاتها هنّ سمفونيات الياسمين، بهذه العبارة تبدأ الشاعرة السوريّة كليمانس محمد حديثها معنا وتمضي قائلة: دمشق تلك الصبيّة اليانعة وأنثى العطر وحضن الأحلام، قدري الذي مشيت إليه على أقدام قلبي، كنت مفتونة بها لدرجة أني كنت أنهي عملي ودوامي الجامعيّ وأركب سيارة الأجرة وأقبل كل طرقاتها بعينيّ نبضي، أنا لا أذكر وجهها، فلم يحدث أن نسيته كي أذكره، مُنتميةٌ لكل حبة ترابٍ فيها ولجوع كل فقير فيها ولحلم كل طفل فيها، ولصمت كل حزين فيها،
ولقُبل كل العاشقين فيها، ولجبلها الحنون، هي الحلم الذي دسستهُ في رسالتي “الفقراء وأحلامهم المشنوقة”
ماذا تتذكرين من الطفولة؟

أذكر أنني منذ الصغر كتبت “خربشات” كنت أظنها قصيدة، بدا الأمر ممتعاً، وبدت الحروف تكبر على صغرها لتشكل أفواجاً من العصافير والنجوم من الألوان والورود، حتى أنني عرفت كيف يُكتب الفرح، كيف تُكتب الشّمس وهي تتناول فطورها مع عصفور “أزعر”، تعلمت كتابة كل القصص التي تحدث معي، ورسائل حب لجاري الصغير، إلى أن سقط الحزن على حروفي يوم بكت بغداد، كبرت بسرعة وكبرت أصابعي، رسمت بغداد بعينيّ وأطلقت دجلة على كتفي يرفده الفرات إلى حيث لا أدري، كانت مرحلة مؤثرة جداً في حياتي ولها حيّز كبير في ذاكرتي.

سيدة العطر وأنثاه

وعن المرحلة الإبتدائية تقول” بدأ منها ولعيّ بكتابة الرسائل، تارة لوالدتي ولوالدي، لجاري الصغير، لمعلمتي “فاطمة سيفو” الّتي كانت تحبني جداً وتقول عني أنّني “طفلة ذكية خارقة، الى جانب عرّابي “جاد”، كانوا محور وجودي آنذاك، حارتي التي إنتقلنا منها وأنا عمري 16 عاماً، وأولادها الأشقياء رفاقي في كل شيء، كانت هواية أمي “تفصيل الأثواب” لي، كنت أتخيل نفسي عروساً جديدة في كل ثوب “ماما رانيا” آلهة وجودي، لم تقل ولا مرة عن أي سؤال روادني بأنه ناتج عن فضول “كان ومازال عندها الإيمان بي”تعودت أن تعوضنا أنا وأخي “جوزيف” عن كل ما حُرمت منه ولا أنكر “نجحت هذه الأم”، والدي الفلاح “محمد”ابن الأرض والحقول وابن القطن والقمح واللوز، لم تسمح له الأرض بأن يُكمل علمه، كان يشتري لي الكتب والقصص في كل وقت وينتظر مني أن أصبح “شيئا كبيرا” في المستقبل على حد تعبيره، أخي جوزيف الشقي كانّ وحيد قلبي ووحيدنا لايمكنني إلا أن أقول عنه أنه “شريان قلبي الأبهر”، فيما بعد كان عندي “ولاء وآلاء” أخواتي وأخت لي ماتت إثر مرض منذ طفولتها المبكرة، مذ ذاك الزمن ولتلك اللحظة كبرت ومازلت أستطيع أن أرى وألمس ضحكاتنا البعيدة، حتى أنني أستطيع أن أرى أطباق الجبنة واللبن والقشطة والشاي والحليب، كلّها كانت من صنع أمي وتعب والدي بالرغم من كل ماسبق، كانوا يعلمونني كيف يجب أن أكون “أنا” في معركة الحياة، لم أعرف أبداً “الحلال والحرام”تعلمت أن الصح هو صح، والغلط غلط بكل أشكاله.

الوجع بصمة القصيدة

وعن وجع القصيدة تتحدث كليمانس: لايمكن أن يكون الشاعر شاعراً، إذا لم يستطع الوصول لعمق الفكرة بلغة قادرة على تصوير الحدث وببساطة السهل الممتنع، وبالنسبة لي مُعظم ما كتبت كان نتيجة وجع لمسته بأُم عيني وكتبه قلبي مُنذ أن وضعت الحرب قدمها في سوريا أخذت على عاتقي مُصادقتها كي “ننجو” منها، نعم الحالة المتناقضة هذه هي بحد ذاتها معركة تفرض نفسها على ذات شاعر الحرب، الحرب ليست معركة وانتصارات وكرّ وفرّ، الحرب وجه طفل سلبته الحرب بيته وأهله، وجه أم يتيمة من أطفالها، حُب يقاوم الركام “النفسي والمادي”كل ما سبق ذكره دون سبق اصرار، يضع بصمته في النص أو القصيدة، والأهم هي أن التجربة الانسانية كفيلة في تطوير الأدوات من وجهة نظري لايوجد شاعر بدون تجربة لربما بسبب واقعنا العربي المُعاش “وحالة الحزن المسيطرة” بشكل كبير جرّاء الحروب والإقتتال المترامي الأطراف.

أنبيّاء من القصائد

وماذا عن الشاعر في وسط الحرب؟

الشاعر في الحرب “فم الوطن ورئته” هذا ما أقوله دائماً، وأيضاً “نبي” آوانه والمستقبل، مثلاً عند قراءة مُظفر النوّاب ومُحمد الماغوط، باستطاعتنا أن نلمس الوجع والحزن والحب وأن نُعانق صراخ الوطن وأنينه، وكما ذكرت سابقاً الشاعر هو فضاء رحب ورسام وموسيقيّ وبنفس الوقت انسان عادي عين قلبه ترى كي تكتب، ويرى ما لا يُرى ويتحدث لغات القلوب كُلها، ففي حالة الحرب الوطن يتحول لطفل، لغة الأطفال صعبة خصوصاً في المرض، الشاعر هنا يجب أن يكون “أُماً” تُشخص الوجع وتسعى لدواء، أن تكون شاعراً معناه أن تكون “كثيراً” وكبيراً وواحداً في الأقل.

ربّات في السماء

ماذا عن المرأة؟

في عالمنا العربي ككل هُناك حالة استنفار حول قضية المرأة، والمعركة هي إثبات وجود، غير أنني لحد اللحظة وبصفتي أنثى أراقب حالة الجدل الكبيرة حول المرأة، أجدها حقيقة هي حرب بالمطلق من وجهة نظري، أولاً وللأسف الإرتقاء لمرحلة الانسان هي بحد ذاتها يجب أن تكون هدفا وقضية في مجتمعاتنا التي تتمسك بالعادات والأفكار القديمة والتقاليد بطريقة عمياء بعيدة كل البعد عن المنطق والواقع الحقيقي، ليس الآن بل في كل أوان كانت المرأة هي المحور ولا أتحدث هنا من منظوري كإمرأة من الشرق العربي لا بل أتحدث من وجهة نظر تاريخية أزلية، ومن الأساطير الأولى في قصة التكوين البابلي عندما كانت “تعامة” الآلهة وقامت الحرب بينها وبين “مردوخ” وبعد أن خسرت تعامة الحرب وكي ينتقم قام بشقها نصفين، صانعاً منها السماء والأرض، حقيقة هو بهذا لم ينتقم بل على العكس أثبت ليومنا هذا أن :”أصل الآلهة أنثى وأصل الكون أنثى”.