مظفر النواب.. الروح العراقية العذبة

454

لندن – فيصل لعيبي صاحي/

لم تتسنّ لي رؤية الشاعر الكبير مظفر النواب شخصياً إلا في باريس عام1977، على ما أتذكر، في زيارة خاطفة له. لكننا سابقاً كنا نردد قصائده في سفراتنا الجامعية أيام الدراسة في بغداد، ونسمع عنه قصصاً وحكايات. كان ذلك اللقاء في بيت الصديق العزيز الفنان التشكيلي القدير نعمان هادي سلمان، حيث جمعتنا جلسة عراقية بامتياز. صاحبتها الموسيقى والغناء والسياسة والحنين إلى بلاد النهرين الآسرة.
في تلك الليلة عزف لنا الفنان التشكيلي المبدع، الصديق العزيز غسان فيضي، على العود مصاحباً تراتيل شاعرنا الكبير، الذي أسمعنا قصيدة (حسن الشموس) العجيبة، وبعضاً من نواحه المعروف على بلادنا المنكوبة. وقد تمتعنا وقتها بكرم مظفر وأريحيته وتجاوبه مع ما كنا نرغب في سماعه منه، فغنى لنا بصوته الشجي الحزين وبحّته الدامية ما طاب له الغناء، فسكرنا مع الهموم المبثوثة في كلماته ومعانيها ومأساتنا التي ترافقنا أينما حللنا.
قد يكون مظفر هو الشاعر الوحيد الذي دفع بالقصيدة العامية (الشعبية) إلى المقدمة، وجعلها تظهر في الصحف بعد قصائد الملا عبود الكرخي، فحولها إلى سلاح جاد وخطير تتوجس منه الأنظمة التي توالت على عراقنا، فأعماله الشعرية، باللهجة العراقية الجنوبية بالذات، لها سحرها الخاص وفعاليتها الأكيدة في ضمائر العراقيين من الجنسين، ولاسيما تلك القصائد الغزلية العذبة التي نادراً ما نراها عند غيره بمثل تلك الرهافة والحساسية والجمال.
لكني كثيراً ما أتساءل مع نفسي، وربما أكون على خطأ، لماذا كان (أبو عادل)، وهو الماركسي الجاد والثوري الذي لا غبار عليه، يستخدم القيم وحتى الأعراف الريفية في تناوله الموضوعات الثورية والاجتماعية؟ هل كان ذلك بسبب رغبته في إيصال ما يريد قوله إلى أوسع عدد من الناس وأكثرهم بعداً عن المعرفة الحديثة لسكان المدن؟ فالبطل لديه أقرب إلى الفلاح منه إلى ابن المدينة، أو المثقف العارف ببواطن الأمور وتعقيدات السياسة والمجتمع، وهو يعتمد على تقاليد الريف، وحتى أخلاقه، مثل الثأر والنخوة والرجولة، وغيرها من المعاني السائدة هناك. وعلى الرغم من روائعه الشعرية الثورية تلك، لكني أميل إلى قصائده الغزلية التي تعكس حرمانات الأنثى العراقية وأشواقها التي لاتنطفئ، فهو يمتلك لغة ساحرة من حيث قاموسها اللغوي: ترف ومرهف ورقيق وحساس، وكأن المتكلم امراة وليس رجلاً.
مع مظفر، أصبح للشعر العامي العراقي موقع متقدم وطليعي في خوض غمار النضال ضد الفساد والتعسف والعدوان، ضد الأنظمة الاستبدادية والرجعية العميلة، لكنه مع الحرية والسلم والديمقراطية، فقد استطاع أن يمزج تقاليد مجتمعنا السائدة مع القيم الثورية الحديثة ويجعل منها نسيجاً من الصور والمواقف التي تهز كيان المجتمع وترعب الطغاة وتقض مضاجعهم.