ناجي العلي إلى فلسطين طريق واحد ووحيد.. هو البندقية

204

رولا حسن/

يقول خالد، ابن ناجي العلي، في مقدمة كتاب (حنظلة –رسوم ناجي العلي المقاومة) الذي صدر عن دار نشر فرنسية غير معروفة:
“يظن الذين قتلوا والدي أنهم بقتله سينتهي كفاحه من أجل تحرير فلسطين والحقيقة أن ما حد ث بعد موته لم يقل حدّة عنه في حياته.”
إسرائيل بالغت بالقتل والتهجير والتغيير الديمغرافي لفلسطين، والشعب الفلسطيني واجه ذلك بانتفاضاته المتكررة، فلم يستكن للظلم على اختلاف أشكاله.
خلق ناجي العلي “حنظلة”، شخصيته المحورية المرهَقة، التي عكس من خلالها وعياً وتبصراً واسعين لأفق الراحل ومعرفته الحقيقية بالعدو المستمر في قهر شعبه الفلسطيني.
وسط الحرب التي تدور في فلسطين الآن يبدو الموت وسيلة وحيدة لإثبات الوجود وزعزعة الكيان الهش، الموت كخيار أوحد لتأكيد الوجود وليس الحياة، إذ تمتد الشواهد بكثرة لتؤكد حق كل شهيد في أرضه. وفي المساحة التي يقطنها في موته أكثر منها في حياته، كما في الكاريكتير الشهير لناجي العلي الذي يصور فيه قبر الفلسطيني مكتوبة عليه عبارة “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، وهو مبدأ (الكوجيتو) الذي انطلق منه ديكارت لإثبات منهجه العقلي.
يأخذ القبر والتراب والعبارة كامل مساحة اللوحة فيتجاوز ناجي العلي العناصر الحسية (المفتاح والشجرة) في تثبيت الوجود إلى مجرد وجود فكرة وأثر بعد موته. وكانت هذه نقطة الانطلاق التي يبدأ منها إثبات وجود الفلسطينيين الحسي المتعين، وبالتالي الأحقية بالأرض.
الجدار العازل
يظهر ناجي العلي بشخصه “حنظلة “على الجدار العازل الفلسطيني، وفي الكثير من الأماكن التي لم تستطع نسيانه ولا نسيان الرصاصة التي وجهت إلى وجهه، ولاسيما الآن في الحرب الشرسة التي تقودها المقاومة، ولعل قوله “أنا ضد التسوية، لكن مع السلام ومع تحرير فلسطين، وفلسطين ليست غزة أو القطاع أو الضفة، إنما بنظري تمتد من المحيط إلى الخليج.” يرن في آذانهم.
يلح ناجي العلي على كرامة الإنسان الفلسطيني، ومن ورائه الإنسان العربي، الأمر الذي يتجلى -برأيه- في سلام الشجعان، لا سلام الجبناء، سلام يحفظ أرض فلسطين من دعاة التقسيم.
لقد قال مراراً: “لا أفهم المناورات، ولا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد ووحيد هو البندقية.”
وبعد كل هذا الوقت لا يزال حنظلة يعلن رفضه وتبرمه مما يحدث على يمين الجدار وعلى يساره، من محيط العالم العربي إلى خليجه، ويدير ظهره لكل محاولات التطبيع والاستسلام.
يطلق صراخه من خلف (الكوما) التي ضربت رأسه، ومن تحت أظافر يديه المعقودتين خلف ظهره، أو من رؤوس خطوطه الساهمة كالبوصلة إلى عدو واحد.
لم يكن اغتيال ناجي العلي في لندن مفاجأة له أو لعارفيه، فهو القائل “كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاً عن لوحة واحدة.”
كان يعرف أنه برسومه يمزق أقنعة كثيرة، ويدك عروشاً وكروشاً كثيرة، وينفذ رسالة حملها منذ تفتح وعيه على الثورة الفلسطينية ومقاومتها. ومنذ خرج من قريته (الشجرة)، التي استظل بفيء إحدى شجراتها السيد المسيح، فتتلمذ على صليبه، قبل أن ينتقل إلى عهدة أساتذة آخرون، فتعلم دروساً في القومية العربية على يد المناضل أحمد اليماني (أبو ماهر)، قبل أن يكتشفه غسان كنفاني فناناً ويطلق رسومه في مجلة (الحرية)، أول درجة في سلمه الفني، ثم يعلمه كيف يدق جدران الخزان ويؤذن بأفكاره من أعلى المنابر.
بدأ مسيرته الفنية في مجلة (الطليعة) الكويتية، وأنهاها في مجلة (القبس) الدولية في لندن. على أن محطته الأساسية التي أمضى فيها أطول فترة من عمره الفني، وأنتج على صفحاتها أكثر رسومه كانت جريدة (السفير البيروتية)، التي رافق صباحاتها منذ عام 1974حتى عام 1982عندما شكل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت حداً فاصلاً بينه وبين تلك المدينة التي بقي كل يوم يقول لها “صباح الخير يا بيروت”، حتى عندما احتلها العدو الإسرائيلي ذات يوم منذ نحو نصف قرن تقريباً.
الابن البار للقضية
استطاع الفنان الذكي الممتلئ رغبة في امتلاك سلاح الكاريكتير، أن يتعلم بنفسه من أساتذة الكاريكتير العرب أمثال صلاح جاهين وحجازي وبهجت عثمان وبيار صادق وسواهم، إلا إنه عمل دائماً على قتل آبائه و(التفلت) مما تحصده عيناه من رسوم، ساعياً للبحث عن وسيلة أكثر تبسيطاً لإيصال أفكاره ومقولاته ووعيه الحاد، إلى أن تربع على كل هذا النتاج الذي يشهد على موهبة بقي صداها يتردد طويلاً في عالم الكاريكتير.
ناجي العلي كان الابن البار للقضية التي لابد أن يتفانى لخدمتها بكل الشجاعة المطلوبة، ما جعل رسومه تقف على خط الدفاع الأول، من دون أن يقدم تنازلات أو يخضع لأية إغراءات، ومن دون أن يكترث للخطوط الحمر التي كانت توضع في وجهه، ولا للتهديدات التي كان يتلقاها، التي رسم آخرها خاتمة حياته. وهو القائل “كلما ذكروا لي الخطوط الحمر طار صوابي، أنا أعرف خطاً أحمر واحداً، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل.”
لقد عرف ناجي العلي مبكراً أن الموت ومقاومة المحتل هما السبيلان الوحيدان لتحرير الأرض ووقف امتهان الكرامة، وقد قال مرة باللهجة الفلسطينية العذبة “اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم عن فلسطين، بدو يعرف حالو ميت.”
إذاً.. فكيف بمن يدافع عن فلسطين كوطن. فما يحدث الآن في طوفان الموت ما هو إلا تكريس مادي لما استشرفه ناجي العلي، فالجميع يموت، الذين يقاتلون والذين يرفضون التخلي عن الوطن.
هنا يتحول الموت إلى أكثر الأشياء عدلاً في حرب لا عدل فيها، ينتصر الفلسطيني بشاهدة تثبت أحقية الشهيد في أرضه بمعناها المادي، مؤكداً ما قاله ناجي العلي يوما: “هكذا أفهم الصراع، أن تصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب.”