أماكن لاتفارق الروح والذاكرة

1٬970

آمنة السلامي _ تصوير: صباح الامارة/

يحدث أحياناً أن نتوقف فجأة عن روتين حياتنا اليومي ونلجأ الى أماكن نشعر أننا بحاجة إليها، أماكن تعيد الهدوء الى أنفسنا وتشيع فينا حاجتنا الى العزلة والانفراد، هي تلك الأماكن التي تكبر فينا فتصبح جزءاً من ذاتنا، تحفر لها مجرى عميقاً في الروح. وهي ذاتها المعلّقة بالقلب وصدى النفس التواقة دائماً للرجوع عميقاً الى الذات.

إنها تلك الزوايا النائية والصامتة من ذاكرة تقمصت المكان وتوحدت فيه.

حضور وغياب

فأي الأماكن نلجأ اليها عندما نحتاج الى العزلة والانفراد أو عندما تداهمنا حاجة لعاطفة ما، تقول الدكتورة (هدى)، اختصاص أمراض نسائية: منذ أربعين عاماً وأنا أعود لنفس المكان، لم يفارق ذاكرتي يوماً، أشعر أنه المكان الوحيد في العالم الذي يحتويني، أبكيه بشدة ويبكيني. كان موعدنا الأول هناك قرب محطة القطار، التقيته بزيّه الخاكي، تلاقينا كثيراً، ثم رحل لتلتهمه نيران حرب الثمانينات. منذ ذلك اليوم وأنا أعود الى نفس المكان، أشعر أن شيئاً ينقصه، وأن وجهاً واحداً غائب عنه، سافرت الى لندن وأكملت دراستي هناك وزرت عواصم كثيرة، لكنني ما زلت أحن الى ذلك المكان الى أن أضحى جزءاً من روحي.

*وماذا عن الأماكن التي تحاولين أن تلجئي إليها عندما تعتريك حاجة الى الهدوء والسكينة؟

ـ إنه مرسمي الصغير في أعلى داري، غرفة صغيرة (أشخبط) فيها أحيانا بفرشاتي، أرسم طيراً أو نهراً او وجوهاً لا أعرف ملامحها، وأحياناً ألجأ إليه فأجلس فيه طويلاً دون حراك لأعود الى ذاتي.. أبكي بمرارة وأحياناً أقهقه عالياً وأحياناً احتسي الشاي فيه بصمت.

البيت القديم

أما سعد، ذو الأربعين عاماً والمغترب في السويد منذ صغره، فيقول: كلما عدت الى بغداد ذهبت الى ذات المكان، أدخل البيت القديم الذي احتضن طفولتي، ألامس جدرانه المهترئة وأنا أبكي، أتامل كل ورقة من وريقات أشجار النارنج في حديقته، التقط الصور لزواياه وأبوابه الخشبية العتيقة وأحملها معي في هاتفي الى غربتي الطويلة.. وعن سكونه وهدوئه وأي الأماكن يفضلها ، يقول سعد: هي حديقة صغيرة لا تتعدى بضعة أمتار قرب شقتي في ستوكهولم أذهب إليها كلما شعرت أن العالم بحجم خرم إبرة، أجلس وحيداً، حتى نفسي انتزعها عني ولا شيء في عقلي سوى بغداد ورائحة طرقاتها ووجوه أهلها الطيبين ودجلة الذي لعبت يوماً على ضفافه.

مقعد الدراسة

تركت سعد وحرقة حنينه لألتقي صديقتي الصيدلانية مها لتحدثني عن أماكنها الأثيرة فتقول: لامكان محدداً سوى مقعد الدراسة في الصف الجامعي، أختلق الأعذار مع نفسي للذهاب الى كليتي التي تخرجت فيها منذ 15 سنة.. فمعقد الدراسة هو عالمي الذي تتوحد فيه ذاكرتي وحواسي، أمنيتي أن أعود إليه يوماً.

مينائي الأبدي

أما أمينة (موظفة) فتصف مكانها المحبب الى قلبها بالقول: عندما يفقد الإنسان كل شيء لا يجد غير العودة الى الماضي ليتشبث بتلابيبه وينتزع منه الأمل، حضناً دافئاً وكلمات غزل عفوية تتدفق من أصدق قلب في الوجود، إنها عفوية من قلب لا يعرف إلا العطاء، بل إنه المكان الشبيه بالجنّة، على الرغم من صغره نحنّ إليه ولانجده إلا في الذاكرة، أملاً وحياة وطاقة، أتعرفين ذلك المكان؟ إنه أمي، تلك التي سافرت من غير أن تخبرنا، أحن اليها ملء روحي فهي مكاني الأثير ومينائي الأبدي.

ناصريتي ودفء العافية

 وللمكان تأثير كبير على روحية الشاعر رياض الركابي الذي يقول: رغم ابتعادي عن مدينتي الجنوبية الناصرية، وسكني في بغداد منذ سنوات طوال، إلا أن تأثير بيئتي الأولى مازال موجوداً وتأثيراته واضحة من خلال كتاباتي، وفي آخر قصيدة لي وجدتني أذكر مدينتي بشوق واعتزاز.. فقد قلت:

وبيج أشوفن وجه يشبهني بصباي.. وناصريتي .. وطيبة أهل ولايتي..وبيج دفو العافية بذيج السنين وكلمة الخوية بشفايف جارتي .

تلقائية الوجود

بدوره، يصف صلاح بوشي، مستشار شؤون المجتمع المدني وحقوق الانسان، الارتباط الروحي بالمكان بأنه شبكة تواصل وجدانية روحية لاسلطان ولا مسؤول ولاراعي عليها، إنها تلقائية الوجود وسريعة التفعيل وممتلئة الرصيد بالحب والعاطفة والحنان وغير قابلة للانقطاع وإن بعدت المسافات ومهما كانت الظروف البيئية والطبيعية التي تحيط بنا.

ملاعب الصبا

وللدكتور رياض ساجت، الأستاذ في جامعة بغداد، رأيه في المكان إذ يقول: تتسرب الأيام ولا تبقى سوى الذكرى وخبرات تجاربها، فالزمان قبْض ريح سريعة، وهذه المعارف الأولى تمتزج بسعادة الدهشة من اكتشاف الأسرار وتعجن بالأمكنة الاولى: ملاعب الصبا وإن كانت الدهشة وسعادتها والطفولة وألعابها والزمان وذكرياته لا تستعاد، نوهم أنفسنا بتعويض المكان القديم عنها وهذا سر الارتباط الروحي بالمكان.

أخيراً بقى لنا أن نوجّه دعوة الى كل المتشبثين عبثاً بأماكن أضحت وهماً من ماضٍ. نقول إن أجمل الأماكن تلك التي نصنعها بابتسامتنا ونزرعها بالورود، وأجمل حنين هو حنيننا الى يوم جديد وغدٍ آخر.