جسر الصرافية..سرمدية العلاقة بين الكرخ والرصافة

1٬516

عامر جليل إبراهيم/

في الطريق إليه روى لي صاحبي طرفة غريبة عن جسر الصرافية لا أعرف إن كانت صحيحة أم لا، قال: إن افتتاح الجسر أول مرة كان افتتاحاً تجريبياً ومنذ ذاك الحين الى الآن مازال افتتاحه تجريبياً!.. وما أن وصلنا الى هذا العملاق الحديدي وجال ناظري بين الواحه الحديدية وهي تتلألأ بين خيوط الشمس حتى هالني جمال هندسته وتصميمه الفريد وعلوه المرتفع عن سطح النهر..

متسائلاً عن أحلام العشاق وأقدامهم التي وطأته ذات يوم وعن قبضتيه الحديديتين اللتين تمسكان بقوة بضفتي النهر الخالد رمزاً لسرمدية العلاقة الخالدة بين كرخ بغداد ورصافتها، وكم من الجراح تحمّلها هذا الفتى الحديد عندما فجّر لمرتين أودت به إحداهما شهيداً غارقاً في النهر.

أسماء الجسر وتصاميمه

سُمي جسر الصرافية بأسماء شتى، فقد سُمي بجسر القطار وسُمي أيضاً بالجسر الحديد، وأطلق عليه من سكنوا بالقرب منه اسم جسر العلوازية أو جسر العيواضية، أما أشهر أسمائه على الإطلاق فهو جسر الصرافية، نسبة الى منطقة الصرافية التي تعود تسميتها الى مالكها وهو أحد الصرافين.

وضعت شركة (كوردبلايزرد) الهندسية البريطانية تصاميم جسر الصرافية، الذي يبلغ طوله مع مقترباته 2166 متراً، بينما يبلغ الجزء الواقع على النهر 450 متراً وتولت شركة (هولو) البريطانية تنفيذه عام 1946، وقد دفعت الحكومة العراقية تكاليفه، لذا عد أطول جسر حديدي في العالم آنذاك.

بين سيدني وبغداد

كان جسر الصرافية معداً للإنشاء في مدينة سيدني في استراليا قبل أن تقرر وزارة الأشغال والمواصلات العراقية آنذاك شراء هيكله الحديدي وتعهد إلى شركة كوبربلايزرد بإدخال التحويرات المقتضية على هيكله وبدأ العمل فيه أواخر سنة 1946
يتكون جسر الصرافية من سبعة فضاءات، خمسة منها بطول 58 متراً وفضاءين آخرين بطول 80 متراً، كما يبلغ عرض ممر السيارات 6 أمتار وعرض ممر السكة الحديدية 4 أمتار. وقد روعي في تصميمه وتنفيذه احتواؤه على ممرين للسيارات مع إمكانية جعل خط السكة المتري خطاً قياسياً من دون إجراء أية تحويرات عليه باستثناء تبديل قضبان السكة والعوارض الخشبية وملحقاتها. ومن الجدير بالذكر أن سقف الجسر يتكون من الهياكل الحديدية الجاهزة حيث كانت مديرية السكة الحديدية تعتمد على استعمال الهياكل الحديدية الجاهزة لسقوف الجسور التي أنشئت في تلك الحقبة وما قبلها.

توقف العمل

تعثر بناء الجسر بسبب انتفاضة الوثبة سنة 1948 واعتبره المواطنون الذين قاوموا عقد معاهدة بورتسموث بين العراق وبريطانيا جسراً يتم إنشاؤه لخدمة الأغراض البريطانية فقاموا بمهاجمة المهندسين الإنكليز والعمال الهنود الذين يعملون فيه ورموهم بالحجارة والقطع الحديدية كما تم رمي بعض قطعه الحديدية في النهر، فتوقف العمل فيه لفترة. الى أن تم استئناف العمل فيه خلال وزارة السيد محمد الصدر واستمر حتى عام 1952 حيث جرى احتفال رسمي كبير حضره السيد جميل المدفعي رئيس الوزراء، ليشاهد البغداديون لأول مرة قطاراً يسير على جسر حديدي على دجلة قاده المرحوم سائق القطار الأقدم السيد عبد عباس المفرجي وكان يشرف على سيره الفنان ياس علي الناصر باعتباره فنياً متخصصاً بسير القطارات الحديثة.

جسر وتاريخ

شيّد جسر الصرافية من قبل الانكليز عام 1946. وفي عام 1951 تحوّل الى جسر لعبور القطارات حيث كانت القطارات تسافر من بغداد الى خانقين، لا سيما قطارات الحمل عبر سكة هذا الجسر. في سبعينات القرن الماضي ألغي الخط القديم المتري للقطار، وبقيت السكة شاهداً على ماض. ولطالما احتضن جسر الصرافية الكثير من الفعاليات والاحتفالات الرسمية والشعبية مثل مرور المسيرات النهرية والزوارق المضيئة بالنشرات الضوئية تحته في المناسبات، فضلاً عن الألعاب النارية والغناء ورقص هواة الطرب وهم في القوارب المنسابة بين أحضان الجسر. ويذكر أن مطرباً فلكلورياً كان قد عاش بالقرب من هذا الجسر في الأربعينات اسمه (سعيد عكار) غنى (المولية) لمحبوبته التي شغفته حباً فقال:(يا عين موليتين، يا عين مو ليّه، جسر الحديد انكطع، من دوس رجليه). كما اقترن جسر الصرافية بالبطولة، حيث كان طلاب الكلية العسكرية، والقوات الخاصة يجرون التمارين العسكرية عليه، حيث يقذف المتدرب بنفسه من أعلى الجسر الى لجّة ماء النهر، بغية تعويده على الجرأة ورباطة الجأش. وكان ومازال جسر الصرافية موئلا لعشاق يتمايلون عليه ويتهامسون بكلمات الحب باستحياء، حتى أنه من الطريف أن نذكر أن كثيراً من طلبة كلية الفنون القريبة من الجسر من جهة الرصافة اطلقوا عليه عند سؤالنا إياهم عن الجسر تسمية (جسر العشاق)!

تحوير أعلى الجسر

كان الجسر حسب مواصفاته الأصلية مخصصاً لعبور السيارات في اتجاه واحد.. لكن الجهات المعنية في التسعينات من القرن الماضي قامت بعمليات تحوير للجسر بغية استخدامه في اتجاهين (ذهاباً وإياباً) بين الكرخ والرصافة كي يتناسب مع الازدياد الواسع والكبير لحركة المرور في شوارع بغداد وليستوعب الاتجاهين في آن واحد وللحد من الاختناقات المرورية التي كانت تحصل غالباً قرب الجسور الأخرى، وتم استخدام المقاطع الحديدية المخصصة لسكة القطار الملحقة في هيكل الجسر أصلاً لعملية التحوير لكي يحتفظ برونقه وعراقته.

الصرافية الشهيد

خلال حرب الخليج الثانية عام1991 تعرض الجسر للقصف…كما تعرّض عام 2006 لتفجير انتحاري بشاحنة أدت إلى أن يهوي جزء منه شهيداً غارقاً في مياه دجلة.. فكان من الضروري إعادة بناء الجسر لأهميته الستراتيجية وارتباطه بذاكرة العراقيين حيث بدأ العمل في ظروف استثنائية بإعادة بنائه في تاريخ 1/5/2007 وبأيد عراقية صرفة من عمال ومهندسين واستشاريين في وزارة الإعمار والإسكان.. ووزارة الصناعة والمعادن .. والمركز الوطني للمختبرات والبحوث الإنشائية.. وبرغم الصعوبات والتهديدات الإرهابية التي رافقت عملية إعادة بناء الجسر إلا أن فريق العمل أصر على إكمال المشروع.. حيث تم إنجاز المشروع وافتتح يوم الثلاثاء الموافق27/5/2008… ليعود الجسر الحديدي معلَماً شامخاً من معالم بغداد الحبيبة.