مدينة حمص: تاريخ يشعّ بالمعرفة ومنجزات الأسلاف

1٬353

خضير الزيدي /

وأنت تولّي وجهك باتجاه مدينة حمص، تأخذك الدهشة بعيداً حيث حقول المعرفة ومراوغة الألم في ذكريات المكان ومفارقة وقائع الحياة لتصنع أمام نفسك مسافة موجعة لا تدري إن كان الطريق إليها سالكاً أم أن ثمة حواجز وعوائق تدعوك للتوقف. وما أن تدخلها لتغامر بإحساسك وانطباعك عنها حتى تتداعى الأفكار وتطرح الأسئلة: كيف يصف لنا التاريخ آثار المدينة؟ وتتساءل كم عمرك أيها الأثر المتروك عرضة للريح؟ كان عليَّ أن أطرح هذين التساؤلين وأنا أجوب هذه المدينة الغائرة في أبدية سجلات التاريخ القديمة الحاملة لأشعة المعرفة ومصابيح معالم الأسلاف، وبما أنني الغريب الوحيد هنا فقد أخذتني دهشة المكان لأتوقف عند أسواقها وخاناتها أتأمل جوامعها القديمة وكنائسها
وأتلفّت يميناً وشمالاً مأخوذاً بالحيرة كيف أصف حمص ومن أين أبدأ في رحلة الكتابة؟

المكان وأبديته

على مقربة من نسيم بحر المتوسط وشاطئه الجميل شاء التاريخ أن يضع لنا مكانها، فالمدينة تتصل شرقاً بالبادية وبآثار تدمر، أما إذا ولّيت وجهك شمالاً فستشير إلى حماة وحلب، ومن الغرب حيث تستوقفك طرطوس واللاذقية وأنت ماضٍ باتجاه لبنان، وإذا عدت أدراجك جنوباً فستكون دمشق وجهتك المعلنة. ولهذا تراها تقع في منتصف البلاد تستقي أعذب المياه من نهر العاصي معلنة تميز أراضيها بخصوبتها ومناخها الملائم باعتداله جاذباً إليه السيّاح من شتى بقاع الأرض فتمدك خضرة الزرع بتصور يبقيك متأملاً شارد الذهن، فكم علينا أن نحلم بإعادة الأمن ليتسع الجمال في المدن السورية. وبما أن الداخل إليها اليوم يجد الشوارع والأزقة وفضاء المدينة مفتوحة على مصاريعها لتؤكد لنا ما دوّنه محمد المكي وهو يذكر لنا في يومياته أن لحمص أكثر من باب منها (باب السباع..باب هود..باب المسدود…باب المدينة ..باب تدمر ) وغيرها، وهي جميعها أزيلت بفعل التطور العمراني وبقي من آثار باب المسدود ما يعيد لنا عمق الأثر التاريخي فنكتشف بأن ما يحتفظ به النقش الثابت يشير إلى مشيّده وهو المنصور إبراهيم بن شيركوه الثاني سنة 644 للهجرة.

كنائس تضيء المدينة

يفصح تاريخ حمص عن وجود العديد من الكنائس ذات الطابع القديم، وهذا يؤشر انتعاش الديانة المسيحية في سوريا. وخير من يرشدنا لوصفها ما دوّنه المسعودي حينما أشار إلى عجائب بنيانها، فقد ذكر لنا كنيسة القديسة هيلانة المشيّدة على أربعة أركان وتبدو لنا بأنها من أوسع الكنائس المتواجدة هناك. ولكن لا يقتصر المكان ومساحته على هذه الكنيسة إنما تشعّ في المنطقة الشرقية من بستان الديوان كنيسة الأربعين. وتشير سجلات التاريخ القديم إلى وجودها منذ زمن السلطان بيبرس، وقد شهدت (كنيسة الأربعين ) إصلاحات وتوسيعاً كبيراً عام 1890 في مرحلة المطران اثناسيوس عطا الله، والمعروف عنها بأنها بنيت من الحجر الأسود على صيغة الأقواس العريضة. أما المذبح فيشغل مكاناً شاسعاً من بنائها ..والأمر لا يتوقف عند ذكرنا لهذه الكنيسة فقط بل أن هناك ما يوفر لنا معرفة الكثير من كنائس حمص، فقد وجدت على أرضها كنيسة القديس جاورجيوس وكنيسة مارليان المطلّة على شارع امرئ القيس وكنيسة البشارة لطائفة الروم الأرثوذوكس البالغ طولها تسعة عشر متراً وعرضها ثلثي طولها، وهي كنيسة بنيت بفضل المطران الكسندروس..ولعل اللافت في مدينة حمص كنيسة أم الزنار وهي من أشهر كنائس السريان الأرثوذوكس إذ يبلغ طول مكان الصلاة 23،5 متر أماعرضها فيبلغ11،5 متر، وتحيط السقف قبّة مسندة بستّة عقود ودعائم، وفي داخل ساحة الكنيسة يشاهد الزائر تمثالاً لمثلث الرحمات.

تاريخ أسواق حمص

كأيّ مدينة بما يتعلق بالجانب التجاري فيها، عدّت حمص مكاناً للتسوق. وهذا ما وفّر لها أن تكون متعددة الأسواق منها ما يؤكد قدمه ومنها ما يبدو حديثاً، ولعل كل قادم لرؤيتها يندهش بشكل أسواقها فيتعرف على أسمائها وأهم البضائع فيها. وبما أن رحلتنا غايتها كشف عمق المكان في حمص فقد عرفنا بأن من أسواقها ما سمي بالنوري او الزلحفة، وقد رجّح بأن يكون السوق قد شيّد بين عامي (1743 ..1756 ) مع تجديد رصفه بالبلاط الحجري المشذّب في أيام عبد الحميد باشا الدروبي. تحيط بالسوق من الأعلى نوافذ للتهوية يقدّر ارتفاع واجهاتها بسبعة أمتار، ويحيطه من الجهة الجنوبية سوق آخر سمي البازرباشي ويعرف عند عامّة الناس بسوق النسوان. ولا يقتصر الجانب التجاري عند هذه الأسواق بل هناك سوق المعرض وسوق العباءة والخياطين وسوق قيسارية الحرير. وقد قادت كثرة الأسواق في سوريا لأمثال شعبية تقال في البيع والشراء وهي معروفة عند أهل حمص بكثرتها مثل المثل القائل (الأسعار والأعمار بيد الله …والف آلبيي ولا غلبي ..وتاجر ومنجّم ما بيصير ..والكفيل حطّاط) والمثل القائل (صاحب المال تعبان وكل شيء بالأمل إلا الرزق بالعمل).

الحمّامات وطابع التراث الشعبي

في رحلتنا السياحية أخذنا الحنين وهوس الفضول لمعرفة الحمّامات الشعبية لمدينة حمص فوجدنا منها القديم والجديد. وهي حمّامات ذات طابع شعبي وفر لنا أن نعرف تراث المكان وسبل العيش وطرائق الحياة اليومية والغالب منها منتشر قرب الينابيع والأنهار، فعلى مقربة من جامع النوري نجد حمام الصغير وسط سوق الصياغة وما أن تنزل إليه حتى تكتشف أنك تهبط ست عشرة درجة ما يدل على قِدمه. يتألف القسم الخارجي منه بأبعاد مستطيلة (5،9 × 6 ) متر تعلوه قبّة مفتوحة منها نوافذ للتهوية، أما القسم الداخلي فأبعاده 7 ×4 متر يحتوي عدة مقاصير وفيه ثلاثة أجران مقرنصة. وأيضا إلى الشرق من جامع السراج نجد حمام السراج ولكن للأسف شكله في حال يرثى لها. أما حمام العصياتي القريب لمقام أبي موسى الأشعري فقد شيّد في العصر المملوكي، يتكون قسمه البراني من قاعة استندت فيه القبة إلى أربعة أركان تحيطها الأشكال الجميلة للمقرنصات وهذا ما يدعونا لتأمل البناء وجمال الزخرفيات ،ونحن نمضي في تجوالنا السياحي نتوقف عند الحمّام العثماني الواقع في منطقة سوق البازرباشي وهو من الحمّامات الواسعة في مدينة حمص وهناك ارتأينا الدخول للاستحمام ولنأخذ استراحة مؤقتة بعد رحلة شاقة لنعيد خطواتنا باتجاه الجنوب حيث دمشق العزيزة.