نساءٌ بلا حقوق وأطفالٌ من دون مدارس!
ذوالفقار يوسف /
ساهم الانفلات الأمني والاضطرابات التي شهدها العراق في مجمل أنساقه الثقافية والاجتماعية بتراجع الكثير من قيم المجتمع العراقي، والذي عزز بدوره القيَم والتقاليد الراسخة للهيمنة الذكورية، وبالتالي تهميش دور المراة واستبعادها، حيث عادت الممارسات التقليدية الضارة التي تناقض المفهوم التنظيمي لبناء مجتمع متكامل، وتتعارض مع المبادئ التي نصّت عليها القوانين والتشريعات الخاصة بحقوق المرأة والطفل.
وقد عمد العديد من الدراسات، التي هدفها معرفة أسباب المشاكل الاجتماعية في البلد، الى رؤية المشاكل التي تهدم أواصره ومن ضمنها الزواج خارج المحاكم العراقية، باعتباره مظهراً من مظاهر القهر التي تخضع له المرأة في العراق. فمن الإكراه الى زواج القاصرات وحتى البدل (النهوة), الى (الفصلية)، ما جعل المرأة دمية بيد مجتمع تميل كفته للذكور، وضاع فيه حق المرأة التي تعتبر نصف المجتمع ومكملاً مهماً له.
عَقد ام عُقد؟
اشترط القانون العراقي وفقاً للمادة (10) من قانون الأحوال الشخصية النافذ، تسجيل كل من أراد الزواج وتصديقه قانونياً في المحاكم العراقية، وإتمام زواجه بصورة سليمة تضمن له ولأسرته حقوقهم، حيث يعاقب من يخالف ذلك بالحبس والغرامة ويحال مرتكبه الى المحاكم، كما يوضحه لنا الأستاذ (فهد ماجد العبيدي) عضو الهيئة العامة لنقابة المحامين العراقيين في محكمة الكرخ حيث يقول: “اذا كان العقد الخارجي قد وقّع قبل صدور العفو يكون مشمولاً بأحكامه أي قبل تاريخ 27/8/2017، ويقصد به الإعفاء من العقوبة المنصوص عليها وفق الفقرة 10/5، وهذا يعني إيقاف جميع الإجراءات التحقيقيه بحق الزوج.”
إلا أن العديد من الأُسر وقعت في شرك هذا الخطأ، ولم يحسبوا للصعوبات المستقبلية التي ستواجه أبناءهم. ولأننا مجتمع يقدّس طقوس الزواج ويحترم العرف الاجتماعي، لم يلتزم العديد من المقبلين على الزواج بضرورة تحديد السن الملائمة له، ما جعلهم يلجأون الى عقد (السيد والشيخ)، وبذلك صارت هذه الحالة قنبلة موقوتة تهدد الأسرة العراقية، وخصوصاً المرأة والطفل.
حيث لا توجد إحصائية دقيقة للمتزوجين بدون عقد مصدق من قبل المحكمة، إلا أنه يتنامى مع تنامي عدم وجود رقابة حقيقية على عقود الزواج غير الشرعية، وأن أغلب محاكم الاستئناف في محافظات العراق، عدا الإقليم، سجلت 27 ألف تصديق لزواج خارج المحكمة خلال الأعوام الماضية، وتصدرت العاصمة بغداد المرتبة الأولى بـ 5 آلاف حالة، وما زال العديد يتزايد بشكل هائل.
القاصرات
في خضم المعارك التي تخوضها هذه الفئة من المجتمع، وتنادي أغلب المنظمات التي تدعو إلى حقوق المرأة والطفل بضرورة حمايتها، أضحت القاصرات تحت أيدي الجشع والحرمان والاغتصاب المشرعن، متخذة هيئة الزواج المبكر خارج إطار المحاكم العراقية. فمن ضياع حقوقهن إلى ضياع مستقبلهن، صار البعض يتفنن في إدخالهن في جوف المأساة، حيث أن الإجازات التي تعطى لعالم الدين لإبرامه عقود الزواج تكون بدون التنسيق مع محاكم الأحوال الشخصية، على الرغم من أن هذا الزواج صحيح من الناحيتين الشرعية والاجتماعية، إلا أن الالتزامات التي تترتب عليه من حقوق للمرأة والطفل تكون معدومة. وبسبب الكثافة السكانية، والطبيعة التقليدية لبعض الأماكن، نشطت هذه الحالة في العراق بشكل لايمكن التغاضي عنه، لكون المشاكل التي تعقب زيجات كهذه، كصغر عمر الفتيات وانتزاعهن من مدارسهن، وضياع حقوق الطفل، مثل عدم وجود بيان مصدّق من المحكمة، او عدم ضمّه للمدارس وبقاء الأطفال دون مستمسكات رسمية.
بيئة مناسبة
لابد من الالتفات الى الوضع الاجتماعي للمتزوجين، من الناحيتين الثقافية والاقتصادية، لكونه يحدد حجم وأسباب المشكلة. فطبيعة المتزوجين خارج إطار المحكمة، حسب رأي بعض الخبراء القانونيين أغلبها تكون زيجات منتشرة في الأرياف والقرى، وبالتحديد العوائل ذات الوعي المحدود والتعليم المتدني، فلا أسئلة تطرح من قبل الأسر لـ(السيد او الشيخ) الذي أبرم العقد خارج المحكمة، والعامل الاقتصادي للأسر التي تبتغي من هذا الزواج الهروب من الأعباء المالية المترتبة عليهم، وباعتبار أن الفتاة مكانها بيت زوجها، وما هذا إلا بسبب المعتقدات والتقاليد الناتجة عن قلة الوعي لبعض العوائل.
الباحثة الاجتماعية (كوثر العزاوي) تقول: “إن انخفاض المستوى التعليمي لدى الفتاة هو أحد أسباب ضياع حقوقها، فالعديد من زيجات كهذه لا تتجاوز الفتاة فيها الثالثة عشرة من عمرها، أي أنها في بداية المرحلة الابتدائية، وهذه المرحلة من الدراسة لاتكفيها بأن تكون ملمّة بأمور مثل عقد الزواج وحقوقها، بحيث لاتستطيع الاعتناء بنفسها وتحسين قدراتها من اتخاذ القرارات في تحمّل مسؤولية الحياة الزوجية، ووعيها بالمخاطر التي ترافق عدم تصديق الزواج في المحاكم الحكومية.”
ضياع الراتب
هناك بعض الأرامل التي تسببت الحروب المتعاقبة على العراق بوفاة أزواجهن، حيث يتم تزويجهن بعقد خارج المحكمة، وذلك بسبب خوفهن من قطع الراتب التقاعدي لأزواجهن المتوفين. الباحثة الاجتماعية كوثر العزاوي تقص علينا إحدى الحالات التي واجهتها حيث تقول: “هناك إحدى الفتيات التي ترّملت بسبب الحرب، حيث كان زوجها عسكرياً، ما جعلها تتسلم راتبه التقاعدي بعد ذلك، وبحكم الأعراف الاجتماعية في البلد، كان لابد من تزويجها من أحد إخوة زوجها المتوفي، وبذلك اضطرت أن تعقد زواجها خارج إطار المحاكم العراقية، خوفاً من أن يتم قطع الراتب عنها، فالعديد من هذه الحالات تؤدي الى عواقب، خصوصاً اذا أضيف لهذا الزواج وجود أطفال من الزوج الثاني.”
59 و71
عضو الهيئة العامة لنقابة المحامين العراقيين المحامي (فهد ماجد العبيدي) يقول: “نص قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وفق حكم المادة(10/5) على أن عقد زواج آخر خارج المحكمة مع قيام الزوجية، يكون فعلاً يعاقب عليه القانون بالحبس لمدة لاتقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن خمس سنوات، أما اذا كان الزوج أرملاً او مطلقاً وقت قيام عقد الزواج، فإن عقوبته تصل الى حد الحبس لمدة لاتزيد على سنة واحدة، حيث تتم إحالته الى التحقيق ويعامل معاملة المتهم في جريمة ويجري التحقيق معه في مركز الشرطة وأمام المحقق القضائي التابع لمحكمة التحقيق المختصة، ومن ثم تدوين إفادته واتخاذ مايلزم من إجراءات على وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم(23) لسنة 1971 المعدل ويعرض على قاضي التحقيق لتقرير مصيره بوصفه متهماً.”
بلا حقوق
صار أغلب المتزوجين حديثاً، هم المتضرر الأول من معضلة الزواج خارج المحاكم، ولأن هناك نفوساً ضعيفة يصل بهم الأمر الى إنكار زواجهم عند (السيد او الشيخ)، عندما ينوون الطلاق هروباً من حقوق زوجاتهم، حيث تكون بداية المشكلة مثول الزوجات أمام القاضي لإثبات مصداقيتها بعد أن رفض زوجها الاعتراف بهذا الزواج الذي حصل أمام عدد ليس بقليل من الأقارب، ويصل به الأمر الى إحضار شاهدَي زور الى المحكمة لتكذيب الزوجة.
الاستاذ المحامي فهد ماجد العبيدي، عضو الهيئة العامة لنقابة المحامين العراقيين، يقول: “إن الآثار التي تنتج عن زيجات كهذه هي آثار اقتصادية ضحيتها المرأة، فالمهر والنفقة واستحقاق الرواتب التقاعدية وحقوق التسجيل لدى دوائر الأحوال المدنية وتسجيل الأطفال بأسماء الأبوين، قد تحرم منها الزوجة، هذا إذا ما أنكر الزوج تلك الزيجة التي تمت خارج المحكمة، فقبل كل شيء تقوم المحاكم بتصديق عقد الزواج من أجل الحفاظ على بقاء الأسر وعدم تفككها.”
النتيجة ذاتها
لابد لنا من الالتفات الى أن عرض عقود الزواج المبرمة بواسطة (السيد او الشيخ) أمام المحاكم، لاعلاقه لها بأصل عقود الزواج ومبادئه او بموضوع الزواج، أي أن الزواج يبقى قائماً ويترتب عليه أثر شرعي ويعد قائماً منذ لحظة تمامه حتى وإن لم يسجل لدى المحكمة المختصة. هذا ماوضحه المحامي (سلوان العتابي) أحد الحقوقيين في محكمة الأحوال الشخصية في الرصافة، حيث يقول “إن هذا التصديق مجرد نص ينظم عملية تسجيل عقد الزواج وإثباته من خلال أحكام الفصل الرابع من قانون الأحوال الشخصية، وهذا مايزيد من حجم المشكلة، ولأن أغلب الفتيات التي يتم تزويجهن يكنّ غير مهيّآت للزواج من الناحية الجسدية والعقلية، حيث تكون المحاكم ملزمة بتصديق هذه العقود لعدة أسباب منها التطلع الى صيانة الأسرة وسلامتها، ولأنها الوحدة الاجتماعية الأصغر التي يترتب على سلامتها المجتمع.”
مأذون شرعي
الشيخ (صالح الخليفاوي) يطالب الحكومة بوجوب إيجاد نهاية لهذه التجاوزات حيث يقول: “يجب الأخذ بضرورة معالجة هذه الحالات باقتراح نظام المأذون الشرعي المعمول به في أغلب الدول العربية، وبالتنسيق مع المحاكم العراقية، وأن تكون هناك سلطة رقابية على المكاتب غير المصرّح بها من قبل المحاكم التي تبرم عقوداً بدون إلزام المتزوجين بتصديقها في المحاكم الحكومية، حيث يجب محاسبة الدخلاء على هذا العمل، من أشخاص همّهم أن يستحصلوا المبالغ المادية، فبالنهاية عقد الزواج عند (الشيخ او السيد) هو مجرد مباركة الزواج، وقبوله شرعياً أمام الله ثم الناس.”
أطفال بلا نسب!
أضحى العديد من الأطفال بلا مدارس ولا هويات تثبت انتماءهم وحقوقهم، فالجهل الذي هشّم مجتمعنا في مدى أهمية القانون، جعل العديد من الأزواج يتأخرون في تصديق عقودهم، وأحد الأمثلة هو طلب تصديق العقد أثناء فترة حمل الزوجة ولا يتم ذكر هذا الأمر، ما يسبب مشكلة عند ولادة الطفل وطلب تسجيله في دائرة النفوس، وذلك لاختلاف كل من تاريخي الولادة والزواج، حيث يتم الاستفسار من خلال دائرة الأحوال المدنية، ويتم بعدها رفع دعوى منها بتصحيح قرار الزواج لإثبات واقعة الحمل وبالتاريخ الأصلي.
الحقوقي (حسين رياض) يوضح لنا آلية حل مثل هذه المشكلة حيث يقول: “حسب الإحصائيات التي لدينا فإن نصف المطلقات حاولن إثبات نسب أطفالهن وتحصيل نفقة لهم، بالتالي فإن هؤلاء الأطفال سيكبرون بدون أن تكون لديهم هوية أحوال مدنية، ولا وجود لهم في السجلات الحكومية، والتي يترتب عليها عدم تسجيلهم في المدارس او شمولهم بالبطاقة التموينية، وهذا مايؤدي الى ضياع هؤلاء الأطفال وتوجههم نحو طرق تؤدي الى خراب حياتهم، وأن قضايا مثل هذه تحال الى الطب العدلي، لفحص الـ(DNA) لمعرفة تطابق الدم بين الزوج والابن.”
مساهمون بلا عقوبة
إن أغلب العقوبات الرادعة بحق الزوج هي بسيطة أمام مايسببه من ظلم واضطهاد بحق من تزوجها. توضح لنا هذا الجانب الحقوقية (مروة جليل) فتقول: “إن المحاكم تجرّم الزوج فقط وتحدد الغرامة والحبس له، ويتم التغاضي عن باقي المساهمين في زواج كهذا، ولأن أسرة الفتاة والشخص الذي قبلَ أن يتم إبرام عقد الزواج بهذه الطريقة، دون إلزامهم بتصديق العقد في المحاكم لضمان حق الطرفين، لم ينص القانون بتجريمهم كمساهمين، حيث تحتل أكثر من نسبة الثلث للمتزوجات في اتخاذ قرار الزواج بدلاً عن الفتيات، هم الآباء تليهم الأمهات ثم الإخوة الذكور، فضلاً عن (النهوة) التي لايزال العمل بها مستمراً لحد الآن لدى أغلب عشائر العراق.”