الأغنية العراقية.. لوعة سرمدية وشجنٌ ازلي !
عادل مكي
بين ذاكرة من حنين وشجن، كان البدوي عاشقاً للغناء، وبين خلجات النفس تنتفض الذكريات، فلا ملاذ غير الصحراء تحتضن زفرات الشوق لتردد صدى صوت يجيد الغناء كالبكاء، فيترك السامع يتأمل في روعة الشجن واستحضار الذكريات. بين البدوي والصحراء حبل مشدود، وكأنه الحبل السري.
تجد في هذه العلاقة أعلى وأعمق درجات الصفاء، شجن لا يوصف، ولحظة تعدل في موازين الوقت عمراً من حنين. ينقلك معه إلى فضاء رحب بالأمنيات، وخليط بين المتعة والألم، ثم يعود بك الى ذكريات وزمان ولى ولن يعود، نوع كهذا من الغناء يغني لك ويغني عليك عبر شحنات الحنين الكامنة في أعماق الذات.
العتابة
لا يزال العديد من المستمعين يجدون المتعة في الاستماع إلى أطوار غناء البادية ذي الطابع الحزين، ولاسيما العتابة والنايل، إذ يكادان أن يكونا هما أشهر الأطوار في بادية العراق، تلك الأطوار التي تخاطب مشاعرهم الدفينة، بما تحتويه من تعبير عما في خلجات النفس المتراكم في ذاتها الشوق والفراق والحنين.
الباحثون في التراث الشعبي العراقي يؤكدون أن العتابة ضاربة في القدم، بل تكاد تكون أقدم من الأبوذية، فهي نتاج المجتمع البدوي المعروف بانتمائه القبلي، وحرصه الشديد على عادات الغزو والأسر والثأر، والعادات الأخرى التي يعرفها أهل البادية.
يذكر الدكتور علي حداد أن فن العتابة قد استوقف الأب أنستاس ماري الكرملي، فقال عنه: “من غناء سكان نهر دجلة، والكلمة مشتقة من العتاب، وهي من مبتكرات عشيرة الجبور، وأشهر الناظمين بها حمادي الجاسم من عشيرة الجبور، وعبد الله الفاضل من شيوخ عنزة، إحدى القبائل العربية المعروفة في البادية.”
إن هذا الحس الوجداني المرهف الذي يترجمه مطرب البادية حين تستقر أصابعه على وتر الربابة، لابد له من أن يوقد في النفس انفعالات شجية تقترب من تراكمات الألم في مواساة صادقة لظروف صعبة عاشها البدوي على مر الزمن. الربابة، تلك الآلة الموسيقية التي تترجم إحساس المغني بنغمها الحزين، قادرة بوترها المنفرد على إثارة الشجن في نفوس أبناء البادية.
تميز المؤدون للعتابة على أنغام الربابة، أمثال الملا ضيف الجبوري الذي أجاد استخدامها، وبرع في التعامل مع وترها بشكل لافت للنظر، حتى باتت له تجربة خاصة وأداء مختلف أنواع فن الغناء عليها .فضلاً عن الراحل جبار عكار الذي أجاد في غناء العتابة وباقي الأطوار.
قصة النايل
اما النايل، فهو فن بدوي يمتاز بروعة الأداء، وحزن اللحن. وتعود تسميته بالنايل، كما يروي الباحثون، إلى قصة قديمة تقول إن امرأة من قبيلة بني عذرة كانت تسكن غرب العراق، وكانت تهوى فتى اسمه نايل، لكنهما لم يتمكنا من الزواج، فأصبحت قصتهما حزينة، ومن هنا جاءت تسميته. يعتبر النايل أحد أنواع الغناء البدوي في شمال وغرب العراق، ويقوم على البحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن(.
ولغناء النايل أنواع عديدة، إلا أن هذه الأنواع تحافظ جميعها على الوزن الشعري، وقد يختلف النوع تبعاً لجنس المؤدي أو مكان الأداء، ومن أنواعه: النايل الثنائي، الذي يعتبر محور غناء العمل، ينشده الفلاحون والعمال، رجالاً ونساء، ويكون الهدف منه هو الترفيه عن أنفسهم أثناء العمل، وقد يتناوب على إنشاد هذا النوع الغنائي أكثر من شخصين. ومن أنواعه أيضاً نايل الطوّاح، ويسمى هذا النوع من النايل بالطوّاح من الفعل (طَوّح)، أي غنى وأنشد على بطء. وفي هذا النوع تتوالى أبيات النايل ليكمل بعضها بعضاً، وعادة ما يكون هذا النوع من النايل ذا دلالات غرامية تعبر عن العشق. كذلك نذكر النايل الغربي، نسبة إلى العشائر الساكنة غربي العراق، ويغنى على نغم الصبا، والنايل العراقي، ويقال له (سنيّة) نسبة إلى منطقة السنيّة، على نهر ديالى في العراق حيث يغنى هناك. كذلك نايل حويجة، وهو اللون الذي يعود بأصوله إلى حويجة عبيد في العراق، ويكاد هذا اللون أن يكون أشهر أنواع النايل وأكثرها انتشاراً، أجاد في غنائه صبيحة ذياب وأحمد عزيز الجبوري.