اللهجة لن تكون عائقاً أمام النجاح الغناء يعرّي فشل الدراما العراقية

260

ياسمين عباس العقابي

النجاحات الكبيرة التي حققتها الأغنية العراقية، ولاسيما خلال السنوات الأخيرة، حيث عصر الإعلام الرقمي ومواقع التواصل، فضحت فشل الدراما العراقية وعدم وصولها إلى الدول تحت ذريعة صعوبة فهم اللهجة العراقية، وعلى اليوتيوب تظهر النتائج علو كعب الأغاني العراقية، وتظهر التعليقات أن هذه الأغاني الجميلة يسمعها حتى أبناء المغرب العربي، إذ يعجب بها الجزائري والموريتاني، كما يعجب بها الخليجي والعراقي، وأن اللغة لم تكن يوماً عائقاً أمام نجاح المطربين.
لقد حققت الكثير من الأغاني مشاهدات تعدت حاجز الربع مليار مشاهدة، وتقترب أغنية “تعال” لمحمود تركي وعلي جاسم من المليار مشاهدة، لابل إن المطربين ممن يبحثون عن النجاح والتفوق والشهرة يلجأون الى الأغنية العراقية واللحن العراقي الذي تفوق على الأغنيتين الخليجية والمصرية.
الاستثمار الفني
وإذا آمنا بأن اللهجة كانت بالفعل عائقاً أمام انتشار الدراما العراقية، فإن الأغاني ومواقع التواصل أسهما بتحطيم هذا العائق وجعلا الطريق سالكاً أمام صناع الدراما ليظهروا إمكاناتهم الحقيقية في تقديم أعمال عراقية رصينة تكفي شهادة العراقيين بجودتها للوصول الى المتلقي العربي.
لكن الواقع أن عجز الدراما العراقية عن منافسة الدراما العربية لا يتعلق باللهجات، إنما لأن صناعة الدراما حرفة تحتاج الى خبرة ومراس وأدوات تحقق النجاح، وفي الواقع أن أضعف الحلقات في العراق هو ضعف الاستثمار الفني، فعلى الرغم من وجود عشرات الفضائيات العراقية فإن المنتج العراقي يتهيب من إنتاج أعمال ضخمة، وفي الغالب فإن الأعمال التي حظيت بميزانيات كبيرة إنما لأن عملية إنتاجها كانت موجهة لأغراض سياسية أكثر ما تكون منها الى أغراض إبداعية.
النسر وعيون المدينة
وفيما كان المناخ الكبير وفسحة الحرية التي حصل عليهما الفنان العراقي والكاتب العراقي يعدان بأعمال عظيمة تتفوق حتى على تلك الأعمال الرائعة التي مازالت عالقة في أذهان المشاهدين لها، في حينها أو حتى بعدها بسنوات، مثل (تحت موس الحلاق) و(النسر وعيون المدينة) و (رائحة القهوة)، وغيرها من الأعمال الكثيرة التي أثبتت أن الدراما لا تعيق نجاحها لهجة، او حتى لغة، إذا امتلكت عوامل النجاح.
لاشك أن الثقافة والشغف اللذين تتمتع بهما عناصر العملية الدرامية هما اللذان يحققان النجاح ويميزان الغث من السمين، لكن من الطبيعي أن كل هذه العوامل تسحق حينما تسعى إمبراطوريات المال السياسي الى إقحام رؤيتها على الأعمال الفنية، ولا يمكن أن توقع نتيجة سوى الفشل.
وبالطبع فإن الدراما العراقية بحاجة الى تمارين جادة كي تفيق من سباتها، ومن المهم أن تدور عجلة الإنتاج وتغري عناصره من الكتاب والمخرجين بسباق الجودة عندما تحقق لهم هذه الأعمال حوافز مادية ومعنوية، ما يدفعهم الى مضاعفة العطاء.
شماعة اللهجة
وعلى الرغم من أن المعنيين، وكثير من الفنانين، رفضوا شماعة اللهجة، بدليل أن الناس يتابعون الأعمال الأجنبية التي تكتمل عناصر نجاحها تشويقاً ودهشة، حتى بدون أن تحتاج الى ترجمة، ولعل الأفلام والمسلسلات التي حظيت بمتابعة المشاهدين العراقي والعربي لاتعد ولا تحصى، ابتداء من المسلسلات الأمريكية ومروراً بالأوروبية والصينية والمكسيكية والتركية.
العراق سيظل بلداً معطاء، ويمتلك قاعدة كبيرة تزخر بالمبدعين، سواء أكانوا ممثلين أم مخرجين، كما أن البيئة العراقية غنية بالأحداث التي تستلهم منها أفكاراً إنسانية عظيمة تثير اهتمامات المتلقي العربي، بل وحتى المتلقي الأجنبي.
الضياع في حفر الباطن
لكن الغريب أن المبدعين العراقيين، من روائيين وقصاصين، لا يغريهم العمل الدرامي، كما أن كتاب السيناريو والمخرجين من النادر أن يعيدوا تلك القصص والروايات العراقية المبهرة الى الشاشة، وقد شاهدنا تجربة لم تتكرر بتحويل العمل الروائي “الضياع في حفر الباطن” الى مسلسل تلفزيوني قدمته شبكة الإعلام العراقي، وهي تجربة اولى ربما لا تحقق كل الطموحات، لكنها تضع ركيزة أساسية لتوجه مهم ينمي الدراما، ويدفع كتاب الرواية الى الاشتغال بهموم العمل التلفزيوني وتجهيز أفكار أكثر نضجاً لمتطلبات العمل الناجح، فقصة النجاح لأي عمل تبدأ من الفكرة والنص ثم السيناريو، لتتوج برؤية إخراجية تمزج تلك الخلطة لتنتج عملاً يحتوي على عناصر المتعة والتشويق والإبهار، ويتخطى حواجز اللغة والمسافات، يمكن للعراقي والعربي وحتى لمن لا يفهم العربية أن يستمتع به ويتابعه، فقصص الناس واحدة ومشاعرهم واحدة، وليس مطلوباً من عناصر العمل الدرامي -وهي تنتج أعمالها- أن تفكر بذائقة الجمهور هنا وهناك، فالمهم أن يكون العمل مبهراً ناضجاً يحمل فكرة عظيمة ومحبوكة مهما كانت تفاصيلها محلية في حارة او زقاق عراقي او قرية في الشمال او الجنوب، فالأعمال العظيمة هي الأعمال التي تناقش قضايا مجتمعها، وبالنتيجة فهي تناقش قضية إنسانية، والمعيار يظل دائماً القدرة على صناعة عمل مبهر.
وفي حال حققت الدراما العراقية ما حققه الغناء فإننا سنرى الفنانين العرب يحرصون على تعلم هذه اللهجة، التي أبدع بها المطربون العرب، وصاروا يتسابقون على غنائها، بل إننا لطالما سمعنا من فنانين عرب رغبتهم وتمنيهم أن يشاركوا في أعمال مكتوبة باللهجة العراقية.
وحتى إذا ما آمنا بأن اللهجة قد تعرقل وصول الدراما الى الدول العربية، ولاسيما في المغرب العربي، فإننا نتساءل لماذا فهم العرب الأغاني الغارقة بالكلمات الشعبية العراقية وحفظوها وأحبوها ورددوها، ولماذا نجح اللبنانيون بتسويق لهجتهم، كما نجح المصريون، فهل صعب أن نسوق لهجتنا من بوابة الغناء إلى العرب ليفهموا جميعاً أعمالنا الدرامية؟ أظن أن الأمر لا يحتاج أكثر من إنتاج اعمال رصينة وناضجة.
المسلسلات الخليجية
علينا أن ندرك أن عملية إنتاج أعمال درامية باتت تستند إلى ركائز أساسية بعد دخول التقنيات الحديثة، وتعتمد على تقنية الصورة والإبهار، وهذا ماركزت عليه المسلسلات الخليجية التي باتت تجذب الجمهور العراقي على الرغم من فقر الأفكار ودورانها بالمجمل حول قضايا اجتماعية عالجتها الدراما العربية منذ مطلع ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لكن استخدام التقنية والإبهار، فضلاً عن التفوق في الإخراج هي التي جعلت لها قاعدة واسعة من الجمهور الذي يتابع هذه المسلسلات.
بينما يمكن للعراق أن ينتج أفضل المسلسلات التي تستلهم أفكاراً ربما لم تتناولها الدراما، كما فعل العديد من الروائيين والقصاصين في أعمالهم الأدبية التي نالت المتابعة والاهتمام العربي، فثمة فسحة واسعة من الحرية يحسد عليها الآخرون صناع الدراما العراقية.
واتفق تماماً في أن صعود الدراما يحتاج الى دعم الدولة، ليس ذاك الدعم الذي يجعل المنتج متكلاً عليها تماماً، إنما بمساعدته عن طريق منحه قروضاً، وعد الإنتاج الفني صناعة يمكن الاستثمار فيها وتسويقها.