رحيل موجع كوكب حمزة.. صانع الدهشة والألحان الشجية

218

بغداد ــ عادل مكي/
بلا مقدمات، رحل ذلك الرجل المكتنز رقةً وجمالاً، الذي عبر (الكنطرة) ولم يعد بعدها أبداً. ذلك الساحر الماهر صاحب الشعر المتدلي على كتفيه، رحل الضاحك بوجه الألم بصمت وكبرياء، كوكب الكواكب وصاحب المواهب، مكتشف النجوم، صانع الدهشة والألق، صائغ الألحان الشجية.
رحل تاركاً على جدار الزمن كنوزاً لحنية، كوكب حمزة، الاسم الذي سيخلده تاريخ الفن رقماً صعباً في معادلة الزمن البهي الذي احتل القلوب بفنه ورقته اللامتناهية، فهو رقيق حد الإعياء، وهو الوتر المشرئب بالوجدان والذاكرة، صاحب الحلي الذهبية. عاش رحالاً بلا جواز سفر، عابراً حدود الدنيا، يحمل بين جنباته عشقاً سرمدياً لذلك الوطن الذي هجره منفياً ومتغرباً عنه، فبكت لبكائه محطات الألم، مرتحلاً بفنه، حاملاً (عوده)، رفيق أحزانه الثكلى.
كان كوكب حمزة أنشودة الوجع العراقي وترنيمة الأمهات السومريات، ارتقى بفنه نحو مواطن الجمال، ورسم بريشته ألحاناً عبقة (سلسلة)، وكأنها تنهدات في محراب الوجع. هذا الفتى الأشيب الذي (انفلّت) برحيله آخر عناقيد الإبداع، لأنه كان آخر أباطرة اللحن العراقي الشجي بعد طالب القره غولي ومحسن فرحان.
رائد المجددين
استطاع كوكب أن يرتقي بالأغنية العراقية الى أماكن أخرى طبع فيها أسلوب الحداثة والتجديد، بعد أن كانت الأغنية البغدادية هي الأولى، التي كانت في معظمها أغاني من مذهب واحد وثلاثة (كوبليهات)، بنفس اللحن ونفس الإيقاع، وبكلمات قد تكون في معظمها خالية من المعنى او التطريب، فجاء كوكب ليقلب الطاولة على أعتى ملحني الأغنية البغدادية بأغنية (يانجمة) وبصوت اللافت للانتباه آنذاك حسين نعمة، حبن اكتشفه وأعطاه ذلك اللحن المنمق بالعذوبة والتفرد، ثم جاءت أغنية (ياطيور الطايرة) وأغنية (الكنطرة ابعيدة)، ليرسم شكلاً ونمطاً جديداً في مسار الأغنية العراقية.
مكتشف النجوم
بعد ذلك أبدع في أغنية (همّه ثلاثة للمدارس يروحون)، من تأليف الشاعر ذياب كراز، التي غنتها المطربة العراقية مائدة نزهت، و(من تمشي) بصوت سعدون جابر، كما غنى له فاضل عواد (شوك الحمام)، وفؤاد سالم (وين يا المحبوب) و(بساتين البنفسج) و (مكاتيب).
اكتشف كوكب حمزة العديد من الأصوات الغنائية خلال مشواره، ما جعل النقاد يطلقون عليه لقب (مكتشف النجوم). ومن الأصوات التي اكتشفها في بدايتها حسين نعمة، وستار جبار، وسعدون جابر، وعلي رشيد، كذلك تعامل مع أصالة نصري في بداياتها، والمطرب عبد الله رويشد، وهو الذي اكتشف المطربة المغربية أسماء المنور.
ولد كوكب في محافظة بابل، ثم درس بمعهد الفنون الجميلة في بغداد، وأكمل دراسته في معهد الدراسات الموسيقية. بدأ مشواره كمدرس في الناصرية والبصرة، وفي منتصف ستينيات القرن الماضي، شارك عازفاً مع الفرقة البصرية، وقدم في بداياته مقطوعة موسيقية بعنوان (آمال). وفي عام 1969 عمل على مواكبة الأغنية العربية الحديثة التي اختلفت في المقامات والموال، وقرر تقديم أعمال تتميز بالحداثة، لكن بأدوات قديمة، فاتجه لدراسة الفلكلور والموشحات.
رحلة المنافي
في عام 1974، اضطر حمزة إلى الهرب من العراق، وتوجه إلى تشيكوسلوفاكيا، ومنها إلى الاتحاد السوفياتي، ودرس الموسيقى في أذربيجان. تنقل بعد ذلك بين سوريا وأميركا وإقليم كردستان العراق، قبل أن يستقر في الدانمارك منذ عام 1989. يقول كوكب حمزة: “لم أكن أفكر في أن أكون ملحناً، مع أني ذات يوم وبعد أن (تورطت)، كنت أفكر كيف أفكك أحجية الأغنية العراقية، التي كانت تمتاز بالرتابة والتكرار، فيما كان محيطنا العربي يعج بالنجوم أمثال محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي والأساليب الحديثة في اللحن والتوزيع، فكنت أنا وطالب القره غولي وكمال محمد نفكر كيف لنا أن نصنع أغنية عراقية تضاهي الأغنية العربية، ثم التحق بنا محسن فرحان، فخرجت من بين أيدينا كنوز لحنية نفخر بأنها ستظل محطات مهمة في تاريخ الأغنية العراقية.” وعن غربته المبكرة يقول “إنها أضافت لي، لكنها في ذات الوقت أخذت مني الشيء الكثير، الغربة موت قاتل يتربص بك أينما تكون.”
يعتبر كوكب حمزة المجدد الأول والمحدّث الكبير للأغنية العراقية، وبرغم أن ألحانه لم تكن بالعدد الكبير، لكنها كانت ذات سمات فنية راقية تحمل في موسيقاها ترانيم وخلجات البوح الخفي المعطر بتراب الأرض، لقد كان ملتصقاً بالموروث النغمي، ساعدته خزانته النغمية والأطوار الريفية في حل أحجية النص العراقي، وأن يصور معانيه تصويراً ممسرحاً، فيه روح متحركة لا تقف عند حد، بل إنها عبرت الى الضفة الأخرى من الألم، تحاكت وتسامرت معه، أخذت منه كينونتها، فالتصقت به وباتت لا تغادره أبداً. نعم إنها روح الأغنية العراقية، التي كانت وستظل المعبِّر الأول عن أوجاعنا المخبئة بين طيات ثيابنا، وبين حدقات عيوننا، فقد أوقد فينا كوكب حمزة مكامن الوجع والألم الممتد منذ واقعة كربلاء الى يومنا هذا.
رحل كوكب حمزة على عجالة ملحناً بريشته الباكية معنى الألم العراقي السرمدي المجسّد في صورة ترنيمة ناطقة اسمها الأغنية العراقية.