بدايات زكي ناصيف المدهشة: من بتهوفن الى إعلانات الشاي والصابون الى “طلوا أحبابنا طلوا”

666

 عامر بدر حسون/

كان مرتلاً بيزنطياً.. أساتذته من روسيا اشتغل في تجارة الجلود أنه أحد أفراد عصبة الخمسة!

العصبة الموسيقية التي ظهرت منذ أربع سنوات وكان أبطالها الاخوان رحباني وتوفيق الباشا وتوفيق سكر و.. زكي ناصيف عصبة صعبة في منهاجها وجوهرها وشخصيتها.. كلهم موسيقيون.. وكلهم فحول في التطور والخلق لابد أن يكون موسيقياً فذا، وشخصية بارزة، لا يقع تحت عبء اسمه ولا يكون تصنيفه وبالا عليه! فنان كان يعيش لنفسه، وللحياة، ولجمال الوحدة والانعزال.. واذا بالقدر يطلقه من دنياه الغريبة ليضعه في مقدمة الصفوف!

اسمه زكي ناصيف

من مشغرة الخاشعة على أرض البقاع. في العقد الرابع عازب.. يقيم في الطيونة بملك أبيه! تلميذ مدرسة المخلص واللاييك.. وقد اخذ عن الأولى حب الوفاء والأمانة وعرفان الجميل، واستقى من الثانية فلسفة اختلاط الجنسين دون احمرار عين! حياته الموسيقية بدأت بالطقس البيزنطي.. وهو الطقس اليوناني الذي يعتمد على التراتيل الجميلة والخدمة المقدسة في محراب الله..

وكان أستاذه الموسيقي الدكتور ابراهيم صالحة الذي نفحه الروح المحافظة على الصحة الغالية! ثم درس الموسيقى الغربية في الجامعة الاميركية على يدي البروفسور “كوغل”..
كما درس التمارين الصوتية على يدي البروفسور “كازاناوكوف” الاستاذ في الاكاديمية اللبنانية..
ومتى عرفت ان كوغل واخاه كارناوكوف روسيان، ومن السلالة التي اخترعت القمر الاصطناعي، ادركت فورا كم كان تعليمهما صارما ودقيقا وعابرا للقارات!..

درس زكي كل هذا واختبأ في بيته.. وهناك راح ينكفي على البيانو الذي يمهد له سبل التأليف و التلحين ووضع الهارموني، وراح يحلق مع سمفونيات بيتهوفن، وموسيقى باخ وبرامس، وغناء محمد عبد الوهاب!
اقول غناء محمد عبد الوهاب لانه لم يكن قد انطلق كموسيقار بعد.. ولما شب زكي وشبت معه موسيقى محمد عبد الوهاب عاش معه باعصابه، وردد مقاطع موسيقاه، كما عاش مع فئة جديدة من موسيقيي الغرب المعاصرين، امثال دي بوسيه، ورافيل، وسترافنسكي، وجريج، وسيبليوس.. وسيبليوس هذا هو اعظم مؤلفي السمفونيات في فنلندا، وقد مات منذ ثلاثة اسابيع، في هذا الجو الموسيقي الملبد بالانغام عاش زكي ناصيف..

ولم يعش في اذاعة، او اكاديمية، او كنسرفاتوار، بل في بيت منعزل هادئ، شعاره النظافة وهدفه تجارة الجلود!

اجل.. تجارة الجلود!

فأبوه أشقاؤه وأقرباؤه من .. مشغرة!

ومتى ذكرت مشغرة شممت فورا رائحة الجلود.. وهذه الجلود كانت تجارة الموسيقى
عليها عاش زمناً طويلاً..

ومنها كسب مع أشقائه الالوف المؤلفة!

ولكن ربك كان رحيماً، فلم تمض سنوات الا ومل زكي رائحة الجلود، و الفواتير والتجارة والاحذية والسندات.. وقرر ان يستريح!

وعند القرار كان عاصي الرحباني يطرق بابه في الطيونة.. كان عاصي يتردد عليه ليندمج في جوه الموسيقي ويبادله الاراء ويناقشه في المؤلفات ويستمع بعضهما الى الحان الاخر.. وحاول عاصي ان يقنعه بالعمل في الشرق الادنى، فتردد، كان زكي ناصيف يخشى الاحتراف في الفن.. ان الاحتراف، كما كان يعتقد، يضيع على الفنان الكثير من القيم الروحية، ومن المطالب العليا، فيضطره الى الاتجار بفنه، ومراعاة أذواق المستمعين! ولكن زكي عاد واقتنع. وفي عام 1952 دخل زكي الشرق الادنى، وبدأ “يحترف” التلحين والغناء.. ومعنى الاحتراف بهذا الصدد لا يعني “التسخير” لا .. بل معناه: القبض!.. اي انه بدأ يقبض ويتقاضى ثمناً لما يلحن ويغنيَ!

وكان اول عمل قدمه للشرق الادنى قصيدة مطلعها “كيف انسى” نظمها محمد يوسف حمود وانشدها زكي بصوته، وكانت القصيدة غريبة على مكتبة المحطة لانها لحنت بطريقة جديدة على المفهوم المعروف للقصيدة.. لقد وزعت على البيانو والالات الغربية المحضة..

وتبعتها الحان عدة ، منها الراقص ومنها الشرقي الخفيف.. وكانت ابرزها “سمعتك في خاطري” و”حين اقبلت يا منى” و”ما بل النجمات” و”طيور الربى” و”هل تسمعين” و”دنياك يا اسمر” وغيرها عشرات..

وكانت اضخمها على الاطلاق قصيدة او برنامج “هي وهو” الذي قدمه زكي بصوته مع فيروز وهو من نوع “البويم سمفونيك”،… ولا تزال موسيقى هذا البرنامج تذاع من محطة بيروت باستمرار وتلاقي الصدى المستحب!

والقليل يعلم ان زكي كان من ابرع “المعلنين” في الشرق الادنى.. لانه هو الذي لحن اعلان “صابون لوكس” و”بن عازار” و”زوزو شاي” التي اثارت انتباه موسيقار الجيل محمد عبد الوهاب!

وظل زكي يمارس فنه في الشرق الادنى حتى العدوان الغادر على مصر، فاستقال مع رفاقه..

وبعد الشرق الادنى التحق بالشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية وقدم للناس من جديد اسطوانة و”حياتك يا درب العين” التي ينشدها نصري شمس الدين.

وفي الصيف المنصرم اشتركت الحانة في مهرجانات بعلبك.. فقدم في الليلة اللبنانية “رقصة المعاصر” و”يا جمال بلادي” و”طلو حبابنا طلو”.. واسهم في انجاح ليلة بلاده كما يليق بفنه وبلاده، وكانت النتيجة كما يعهد القراء: حفلة كوكتيل.. واوسمة توزع هنا وهناك، الا على الصدر المستحق!

ومع هذا، لم ينبس زكي ببنت احتجاج.. بل شكر الرئيسة شمعون التي تلطفت وخصته بكلمة تقدير واعتبرها الفنان المهذب ارفع من ارفع وسام!

هذا هو زكي ناصيف..

وهي لمحة خاطفة عن فنان من هذه الارض الطيبة.
“جورج”