من أطلق رصاصة الرحمة على دور العرض السينمائي؟
محسن ابراهيم /
(نارك قلبي نارك), تلك اللازمة التي اشتهر بها الفنان عزيز كريم في السهرة التلفزيونية (سينما), حكاية من واقع العائلة العراقية واستعدادها للذهاب إلى دار السينما ومايرافق تلك الأمسية من مواقف طريفة ومحرجة.
وأنا أشاهد تلك السهرة ذهب خيالي بعيداً مستعيداً ذكريات خلت عن ذهابي لأول مرة إلى صالة عرض سينمائي. حين اكتشفت عالم السينما وأنا ابن التسع سنوات, كثيراً ما كانت تشدني أفلام الكاوبوي والأفلام الهندية, كان بالنسبة لي عالماً خيالياً، وقد أتخطى في بعض الأحيان عالم الخيال وأتقمص شخصية أحد الأبطال أمثال رنكو وشامي كابو ودار مندرا. اكتشافي المثير كان حين ذهابي إلى الباب الشرقي، حيث شاهدت الكم الهائل لدور العرض. مرت السنون وباتت المشاهدة أكثر نضجاً وصرت أبحث عن الأفلام العالمية بعيداً عن الآكشن والحركات البهلوانية. في عمر التسع سنوت اكتشفت السينما وتابعت الأفلام حين كانت بغداد تزخر بدور العرض السينمائي، ولكل دار عرض نوعية خاصة من الأفلام التي تعرضها, وبعد ماحصل تحولت دور العرض إلى مخازن للبضائع، بعد أن فقد شارع السعدون والباب الشرقي رونقهما, ما أحزنني فعلا هو سؤال أحد الصبية في الوقت الحاضر( كيف يكون شكل السينما) ؟!!!
الاختراع العجيب
في ليلة السادس والعشرين من تموز عام 1909 تجمهر الناس لمشاهدة هذا الاختراع العجيب: آلة تبث إشعاعاً ضوئياً يسقط على ستارة بيضاء، ويبدأ الشخوص بالتحرك, المتجمهرون منهم من لاذ بالفرار ومنهم من استعاذ بالله ومنهم من وقف مندهشاً,, كان هذا اول عرض سينمائي في بغداد في دار الشفاء الواقعة في الجانب الغربي في بغداد. توالت بعدها العروض السينمائية منذ ذلك الحين حتى وصل عديد دور العرض في بغداد الى اكثر من (70) دار عرض سينمائي حيث كان المشاهد العراقي في منتصف الثمانينات هو من اكثر مرتادي دور السينما على نطاق الشرق الأوسط. بعد عام 2003 تضاءل هذا العدد حتى وصل الى خمس دور فقط, وتحول معظمها الى مخازن وورش نجارة، وتحولت معظم واجهاتها الى محال لبيع المشروبات الروحية. وللوقوف على أسباب هذا التضاؤل وعزوف الناس عن ارتياد صالات السينما كانت لنا هذه الجولة:
دور مزدهرة
جولتنا الأولى كانت بالقرب من سينما غرناطة حيث تحول المكان الى مكب للنفايات وسوق لبيع الملابس المستعملة وضاعت معالم الصالة وسط هذا الزخم الكبير من الباعة والمتسوقين، هناك التقيت المسؤول عن صالة العرض في سينما غرناطة الذي تحدث قائلاً:
أنا أتحسر على الأيام حين كانت هذه الصالة تعج بالمتفرجين في الثمانينات حين كانت دور العرض مزدهرة, وحتى حضور العائلة العراقية في العرض المسائي كان أمراً طبيعياً جداً, بدأت عروضنا بالانحسار منذ أيام الحصار في التسعينات حيث اضطررنا حينها الى عرض أفلام عراقية والتي أطلق عليها في حينها أفلام السكرين, أما الآن وكما تشاهد لايدخل الى صالة العرض إلا عدد محدود يكاد يعد على أصابع اليد, ولو أردنا أن نرمم هذه الصالة او نستورد أفلاماً حديثة سيكلفنا ذلك مبالغ طائلة، ولو نظرنا الى الأمر بطريقة حسابية مع عدم وجود مرتادين لهذه الصالة فالنتيجة ستكون كارثية!
تركت سينما غرناطة.. وأخذتني قدماي ليس ببعيد حيث احدى الورش لصناعة الأثاث، وكم أدهشني هذا الأمر حين أخبرني أحدهم أن هذه الورشة هي ماتبقى من سينما الخيام التي أنشئت مطلع الخمسينات وكانت صرحاً متطوراً آنذاك, لم أجد أحداً هناك ليحدثني لماذا تحولت هذه الصالة التي كانت في يوم من الأيام من أحدث صالات الشرق الأوسط الى ورشة لصناعة الأثاث, لكن أحد المارة همس لي بأن السينما في العراق قد انتهت ولايوجد الآن من يفكر في أن يرتاد صالات السينما, وذلك للسمعة السيئة التي تنال مرتادي دور العرض, فيما انبرى شخص آخر قائلاً: “الشعب العراقي من أثقف شعوب المنطقة سينمائياً وما إن تسأل أحدهم حتى يحدثك عن ممثلين عالميين أمثال انتوني كوين وصوفيا لورين، لكن الظروف الصعبة التي مر بها العراق هي من جعلت الناس والعوائل العراقية تعزف عن ارتياد دور العرض وأنا أؤكد لك أن الأيام الزاهرة لدور العرض ستعود من جديد شرط أن ينتبه المسؤولون عن هذا الملف لإحياء دور العرض الحكومية على أقل تقدير.” غادرتهم وانا على يقين تام أن الأمر سيتحول من بعدي الى مناقشة حادة وقد يصل الى العراك.
ثقافة سينمائية
أكملت تجوالي وصولاً الى سينما اطلس حيث حدثنا أحد مسؤولي الصالة قائلاً:
مع الأسف الشديد أن العراقيين الذين كانوا فيما مضى من أكثر رواد دور العرض السينمائي في الشرق الأوسط، وكانت دور العرض آنذاك مختصة، فلكل دار عرض نوعية من الأفلام تعرض على شاشاتها منها ماهو مختص بالأفلام الهندية ومنها ماهو مختص بأفلام الآكشن وهكذا، لكن الآن لم يعد يفهم العراقييون ما هي السينما.. تصور أن سعر الفيلم35 ملم يصل الى اكثر من عشرين ألف دولار ونحن لا نملك هذا الثمن لشرائه وحتى لو حصلنا على هذا المبلغ فالنتيجة واضحة فإننا لن نكسب شيئا. يجب أن ترسخ ثقافة سينمائية جديدة لدى الناس.