مشغل الفنان إحسان الجيزاني أنموذجاً

998

جاسم عاصي /

منذ لقاء الفنان العراقي(احسان الجيزاني) مع الفنان الإيطالي (أنطونيو سورنتو) في المانيا، وفي كاليري لقاء الحضارات حصراً، وحوارنا دائم مع ما جرى ويجري حول فن اللقطة الفوتوغرافية وبلاغتها. فإذا كان (انطونيو) مسحوراً بأزقة فينيسيا المائية، كان (الجيزاني) ما زال مندهشاً ومتعلقاً ببيئة الأهوار في جنوب العراق.
استهلال
لكنه رحّل دهشته إلى ذائقة (انطونيو)، فبدا في حواره الدائم يتمنى الحلول وسط فيض المياه وسحر البردي والقصب في مسطحات سومر التي ذكرها (صوموئيل نوح كَريمر) في كتابه (السومريون) وتوصيفها بالمسطحات المائية. من هذا وجدنا الفنان (الجيزاني) قد تجاوز مكامن الدهشة هذه نحو مكامن أُخرى ذات ثراء وسعة وبلاغة الوجود كالصحراء والطقوس المندائية مثلاً. وبهذا بقي أسير الماء ودلالاته في الميثولوجيا منذ نشوء الخليقة ورمز الماء فاعل وسائد. إن الضرب على التنوّع عند الفنان راجع إلى التجوال في فيض الكون بدليل تنامي الوعي للوجود في استنطاق بلاغة ما يرى ويشاهد متنقلاً في الأمكنة الأكثر حساسية ودهشة. فهو لا ينقل مشاهد أثْرَتْ ذاته الفنية، بقدر ما يثابر على بنيانها ومنحها بلاغة التعبير بالصورة. وهذا الهدف البنيوي يفعّله دائماً اختراق جدار السكون، انطلاقاً من حيويته الذاتية، وسعة رؤيته وتأثره الدائم بما يرى ويحلل مشاهده قبل استعمال عين الكاميرا. وهذا ما وجدناه منعكساً في صور كل من( عادل قاسم، فؤاد شاكر، جاسم الزبيدي، كفاح الأمين، ناصر عساف، عبد الرسول الجابري، هادي النجار). إن حساسية الأمكنة الاستثنائية وغناها وسحرها، واستعراض الظواهر والصور الإنسانية شكّلت سمة بارزة في لقطات الفنان. فهو يحرص على إظهار الصورة على صفاء ضوئي، من خلال استكمال تشكلاتها الفنية، وتحديد زوايا اللقطة، وإغنائها بمعادل ضوئي لوني وافر ومتوازن. وهذا ما وفّر صفاءً لافتاً للنظر طغى على صوره، إذ نجده يراعي سعة الفضاء، سواء أكان مائياً أم صحراوياً من أجل تفعيل إمكانيات عدسة الكاميرا في رصد المشهد. ولا يغفل عن هذا وهو يلتقط مراسم الطقوس المندائية على ضفة النهر، فهو يعكس فيض وسعة سطح الماء وامتداده، وسعة الفضاء السماوي. في هذا الجانب الأكثر فنية، يكون التظافر أكثر بلاغة في إنتاج الصورة. وبلاغة الصورة عنده عابرة لمجالها الذي لا يستقر على حال، فهو يثري نتاجه بجملة مشاهد من قاع الحياة وحافاتها كالبيئات الفقيرة والأرصفة وحياة الإنسان المطرود عن مجاله، كل هذا شكّل معمار صورته.
مشاهد مائية
من الملامح الراسخة في جُهد الفنان الفوتوغرافي، إعادة صياغة سحر الطبيعة وجمالياتها تداخلاً مع رؤيته الفكرية في ما يخص الجمال، ونعني هنا التأمل في بيئة الأهوار وتشكلاتها المثيرة، فهو يتعامل معها من منطلق العارف بأسرارها، المتسقِّط لخصائصها الذاتية المتعلق بدهشته الدائمة في الكشف، فهي بيئة تتلوّن وتتشكل دائماً للساكن فيها والعابر نحوها، إنها بيئة مائية متحركة لها تاريخها الممتد في العمق القديم، وبساط مائها يمتد دون عائق لمسافات أو كما نعتها (صموئيل نوح كَريمر/المسطحات المائية). وما يضيف لها جمالية فائضة، هي وحدات ومفردات بيئية نامية؛ منها أعواد القصب والبردي المتعامد، وحركة الطيور المنتشرة والمختبئة بين طيات أجمات البردي، لذا عمد إلى الاختيار المتحوّط والضارب في الجمال.
إن صفاء الصورة أسهم بشكل مذهل في عكس خصائص مكوّنات البيئة كالماء والفضاء وما نبت على أرضه وظهر على سطح الماء من أعواد البردي والقصب. ولعل لقطة الرجل الذي يقود زورقه واقفاً، حاملاً مرديّاً،غارساً إياه في عمق الماء، تظهر فوقه سماء صافية، وسطح مائي رائق تحوّل إلى مرآة عكست صورة الرجل والزورق بتقنية عالية، ونظرة ذات حمولات جمالية، عبر تعامل فذ مع عناصر الطبيعة في بيئة الأهوار. فالبساطة تعني العمق الدلالي في ما يُشاهد المرء وما يعيش في تفاصيل المكان. كل هذا الصفاء والمكوّن الجمالي حقق صورة واقعية مغموسة برؤى فنية خالصة، وهي صورة دالة على أن الفنان يعالج المشهد برويّة وهدوء في اختيار زمن اللقطة وزاويتها، هذا الاختيار دليل على أنه معنيّ بالبنية التي تشكل جمالية المشهد، والتي بطبيعة الحال رافقته في أرض المهجر.
الخراب والإحساس بالمكان
لعلّ خراب (المكان)، البيئة المائية، أخذ من الفنان جُهداً في رصد تأثيرات جرف المياه عن أحواض الهور، وهي جريمة كبيرة لا يغفر لها التاريخ بحق البيئة والإنسان. فما عادت سوى أرض متشققة تنتشر على أديمها أعواد البردي المتكسرة والجافة. إن جريمة تنشيف مياه الأهوار تركت آثارها السيّئة، ليس على جمال الطبيعة بموتها، وإنما على الإنسان الذي لا يعرف سوى العيش بين المياه. لذا نجد الفنان يُركز على أهم وسيلة عيش وتنقل، هي الزورق والأرض، فرصد في مجموعة من الصور زوارق آلت إلى الفناء التدريجي، بسبب الإهمال، خشب متداعٍ، أشلاء مبعثرة وسط تشقق الأرض وموتها بسب الجفاف، كهولة الزورق الواضحة للعيان. محاولة فذة لترجمة واقع عانى خلاله من موت تدريجي بسبب عطله الدائم. لقد حاول باستثناء أيضاً أن يرصد الحياة الاجتماعية في البيئة عبر تجمعات الأطفال والشباب وبهجتهم وفرحهم الدائم، وعكس قناعتهم وحبهم لبيئتهم. وهي مشاهد درجت على أن يكون الإنسان هو الأهم، بالرغم من الخراب الذي عمّ البيئة. الجمال المتحقق في الصورة يتوسل بكل ما من شأنه تجسيد الواقع عبر فعاليات الإنسان في بيئته, إن التراجيديا التي عكستها الصور الفوتوغرافية، هي الشاهد الأمثل على رداءة الأزمنة وانحرافها عن الخط الإنساني في كل المجالات، خاصة الحفاظ على جمال البيئة والحرص على ديمومتها وازدهارها والسعي لخلق مستقبل لها لتكون معلماً متميّزاً.