الأجدادُ والأحفاد
حسن العاني /
يوم بدأ تلفزيون الجمهورية العراقية بثّه لأول مرة في عام 1956، إذا لم تخذلني الذاكرة، كان ذلك إيذاناً بولادة مرحلة جديدة في حياة الأسرة العراقية، إذ سرعان ما أصبح هذا الصندوق، الذي يعرض برامجه وأخباره وأفلامه بالأسود والأبيض، الشغل الشاغل لأفراد “العائلة”، لأن الأجيال التي عاشت عصر “ما قبل التلفزيون”، تستذكر كيف كانت الأسرة تمضي سهراتها الليلية، حيث يجتمع أفرادها بعد العشاء، ويتبادلون أحاديث شتى، العامة والخاصة، أما صغار السن فعادة ما ينصرفون الى ألعابهم!!
كانت للصيف طقوسه، وللشتاء كذلك، ولعلّ أمتع ما تستحضره طفولتي من طقوس هو الاستماع بعقلي ومشاعري الى “حكايات” كبار السن، وهي في العادة من اختصاص جدّاتنا أو أجدادنا، لأنها عامرة بالإثارة والتشويق وإطلاق العنان للخيال، ولم تكن سهرات أو “تعلولات” الصيف والشتاء حكراً على فعالية الحكايات التي ندعوها “سوالف” –جمع سالفة- بل هناك العديد من التسالي الظريفة، من ذلك نطق عبارات أو جمل مركبة تركيباً يصعب ضبطه عند النطق.. او الحزورات.. الخ
الشاشة الصغيرة صادرت تلك المتع، وحوّلت كل فرد في العائلة الى إنسان آلي، مثلما حوّلت العائلة نفسها الى كيان صامت.
ومع ذلك فإن تمزيق وحدة الأسرة على يد التلفاز لا يقارن بالزلزال المدوي والتدمير الهائل الذي ألحقه الإنترنت بصغار العائلة وكبارها على حد سواء، حتى يبدو لمن يتعابهم عن قرب وكأنهم غرباء عن بعضهم البعض. لكن الذي حصل قبل بضعة أيام أن الإنترنت توقف بعد تعرضه الى خلل فني، ولذلك ضجّ منزلنا بصخب الأطفال والمراهقين من الجنسين، وهو الأمر الذي دفعني الى جمعهم حولي وقلت لهم: “سأوجه لكم أسئلة، وكل من يجيب إجابة صحيحة يحصل على ألف دينار”، ولقي مقترحي –بسبب اقترانه بمكافأة مالية- ترحيباً حاراً، بحيث شاركتْ فيه حتى جدّتهم، أعني زوجتي!!
سؤالي الأول: “ما هو الرقم الذي تكون نتيجته واحدة في حالتي الضرب والجمع؟”، وفي أقل من دقيقة أجابني أحدهم “الرقم 2″… وقبض ألف دينار، أما سؤالي الثاني فهو: “ما هو جمع مفردة عندليب؟” وجاء الجواب سريعاً من حفيدتي “عنادل”، وقبضتْ ألف دينار.. أشهد أنهم كانوا في قمة الحماسة والمتعة، ولكن لم تمضِ غير ساعة من الزمن حتى وجدت نفسي قد دفعت (27) ألف دينار، وهو أمر يربك ميزانيتي ويضر بصحتي، لذلك فكرت بسؤال صعب، أكبر من أعمارهم، ويستحيل أن يتعرفوا على إجابته. ثم أخبرتهم أن من يتوصل الى الإجابة الصحيحة يحصل على مبلغ (5) آلاف دينار، ومن دون شك فإن المبلغ الكبير دغدغ عواطفهم وحساباتهم المادية.. وكان السؤال على النحو التالي: “لو تزوج رجل متعلم ونفعي وذكي من إمرأة أمية بسيطة يستطيع توجيهها يميناً ويساراً وكيفما يريد وعلى هواه، فإن الزوجة في هذه الحالة تُشبه شيئاً بيد الرجل.. ما هو هذا الشيء؟!”
الجواب معروف بالنسبة لنا نحن الكبار، فالمرأة في هذه الحالة كما تقول تعابيرنا الشعبية المأثورة تُشبه (العجينة)، يسيّرها الرجل على هواه ومزاجه ومصلحته، ولكن الأمر كان صعباً على أحفادي، ولهذا ارتبكوا وشرّقوا وغرّبوا. وقدّموا أجوبة مضحكة في أغلب الأحيان. وقبل انتهاء الوقت المحدد للإجابة بثانيتين، قال لي أحدهم: “جدو.. إنها تشبه الدستور، فهو الآخر يمكن توجيهه كما يريد السياسي.”
في الحقيقة فاجأني الجواب، ولم يخطر على بالي، وعندما تأملته وجدته صحيحاً مئة بالمئة، ولكني كذبتُ عليه وقلت له: “مع الأسف.. الإجابة خاطئة.. انتهى الوقت!” فربما يفلت هذا الكلام من لسان الأحفاد خارج المنزل وقد يسمعهم شخص مازال مخدوعاً بالدستور أو مؤمناً به أو منتفعاً منه، ويحيلهم الى محكمة سجن الأحداث، وعندها لن يشفع لهم جدّهم ولا جدّي..