
آلام العارف (القُشيري)
جمعة اللامي /
من أجمل “نظم” الشيخ القشيري هذان البيتان:
“قد أجبنا لزاجر العقل طوعًا
وتركنا حديث سلمى وميّا”
بالرغم من أن هذا البيت واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، فقد تمكن حسّاده ومبغضو منهجه العرفاني، والأخلاقي، من تأليب السلطة ضده، ونجحوا في إبعاده عن بلاده لمدة خمس عشرة سنة. والعلامة القشيري، هو العارف بالله القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري. و”نيسابور” عاصمة خراسان التي تُعد من أعظم المناطق الإسلامية في القرون الوسطى.
وإذا تذكر “نيسابور” تذكر أيضاً – “بلخ” و “هراة” و “مرو” وهي مركز ولادة “عمر الخيام” و “فريد الدين العطار”. وهو عربي قحُّ، مثل غيره من أبناء القبائل العربية، بعد الفتح الإسلامي، الذين رأوا في التغرب عن السماء الأولى، والتغرب في الأرض رسالة تبليغية وثقافية، لا يدانيها في المنزلة إلا الإسلام ذاته.
نشأ القشيري يتيماً، فتولاه أحد أصدقاء والده الذي درس على يديه العربية وعلوم الدين. وكانت “نيسابور” في زمنه عاصمة الأدب والعلم والفنون، وهناك تعرف على شيخه “أبي الحسن بن علي النيسابوري” المعروف بـ “الدقاق” فلازمه، وأفاد من علمه، وترك كل شيء إلا العلم.
ومن طريف ما يروى في هذا الصدد، أن “الدقاق” بعدما رأى صفات النجابة في تلميذه الصبي، أشار عليه بطلب العلم والانصراف عن الوظيفة الحكومية. فاختار الفتى ما ارتآه شيخه، وهو لم يكن يدري بأن درب العلم العرفاني سيقوده إلى التغرب عن بلاده لمدة خمس عشرة سنة.
إن علاقة “القشيري” بأستاذه “الدقاق”، جديرة بأن تروى، لأنها تريك تلك الوشيجة غير التقليدية بين إرادتين حين يكون العلم سداها ولحمتها. كما تريك أن الوفاء صفة المتحابين في الله. وهذا هو ما دعا القشيري، ليلقب شيخه وأستاذه بـ “الشهيد”.
لقد درس “القشيري” على شيوخ عصره، ومنهم: محمد بن الحسين الأزدي السلمي النيسابوري، وأبو بكر محمد بن أبي بكر الطوسي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، وأبو إسحاق الإسفراييني، وأبو العباس بن شريح، وغيرهم كثر.
وهو على مذهب الإمام الشافعي، رحمة الله عليه. ومن تلامذته نُجُب كثر، بينهم “الفقيه البغدادي”، الذي قال فيه: “قدم علينا الأستاذ الشيخ إلى بغداد، وحدّث فيها وكتبنا عنه، وكان ثقة، حسن الوعظ، مليح الإشارة.” وكان القشيري إمام عصره في التذكر، وذكره أبوالحسن الباخرزي (1070 ميلادي) بقوله: “ولو قُرعَ الصخر بسياط تخديره لذاب، ولو رُبط إبليس في مجلس ذكره لتاب، ولو فُصّل الخطابُ في فضل منطقه لاستجاب.” ومع هذا كله، يخبرنا “السبكي” في “طبقات الشافعية الكبرى” أن بعض حاسديه أذاعوا حوله الأكاذيب، ولفقوا له التهم، فتجرع آلامًا نفسية ومادية، وهاجر من نيسابور إلى بغداد التي أمضى فيها خمس عشرة سنة، بعدما استجاب السلاطين السلاجقة لأولئك الواشين الحاقدين.
للقشيري “الرسالة القشيرية” في علم التصوف، وهي أشهر من أن تُعرف أو يحاط بها، فضلًا عن عشرات الرسائل والكتب والمراسلات في فقه الدين واللغة وأحوال الدنيا. رحم الله العلّامة العارف بالله القشيري.