أطفال The Voice Kids : لنغن، إذن، ما دمتم لا تعبأون بأحلامنا

1٬205

عواد ناصر/

هرباً من كوابيس السياسة العربية، والعراق في مقدمتها، اخترت أن أسهر مع برنامج “ذَا فويس mbc” وهو نسخة من برنامج عالمي، اعتمدته تلفزيونات أوروبية عدة، لتقديم مواهب غنائية واعدة، من الهواة، وهو على نوعين، الأول للبالغين، من الجنسين، والثاني للأطفال، ومن الجنسين أيضاً.

على شكل مسابقة تخضع لمحكمين من نجوم الغناء العربي الذين يختارون من بين المتسابقين أفضلهم، حسب رأي هؤلاء المحكمين لينضموا إلى فرقهم على أن يقوموا بتربيتهم فنياً وتدريبهم تقنياً ليقدموا أفضل ما لديهم فيما بعد، نجوماً للمستقبل.

ملايين المشاهدين

البرنامج يحظى بمشاهدة عالية جداً، تقدر بملايين المشاهدين على امتداد البلدان العربية، ومن هنا فمثل هذه البرامج على ما تقدمه من إثارة ومتعة فهي فرصة نموذجية لكسب المعلنين، أسوة بالكثير من البرامج التلفزيونية التي لا تقدم ما تقدمه مجاناً، وحباً بعيون مشاهديها.
لا اكتمكم بأنني استمعت كثيراً بما شاهدت، بل تأثرت جداً بما يمكن أن أدعوه “تأثير ما خلف الأغنية” من تجارب ومحن وأشواق ونجاحات وخيبات، أي ليس تأثير الأغنية نفسها، على روعتها، بل بما ولدته لدي، كمشاهد ومتذوق، وليس ناقداً غنائياً أو موسيقياً.

أسطوانة ليست مشروخة

“تأثير ما خلف الأغنية” هو تداعيات زمن مشاهد مثلي، مضى وانقضى، يستعاد الآن على شكل أسطوانة ليست مشروخة، بكل ما حفلت به من أشواق وطرب وأحلام وحب ناجح أو فاشل، بين طرفين أو من طرف واحد، بما في ذلك أوهام حبنا لأولئك النجمات الشهيرات اللواتي بللن شراشفنا بفضة نجوم سائلة من سماء مراهقتنا وحسد نجوم الشاشة الذين جمعتهم مع نجماتها لحظات غرام حميمة، لنقلب ألبوم حياتنا الزاخر بالألوان، كلها، وأن كان الكامد منها سيد ألوانها.

ومن “تأثيرات ما خلف الأغنية” وكواليسها، في الماضي والحاضر، هو التفكير بمصائر نجوم ونجمات العرب من المغنين والمغنيات الشهيرات الذين لونوا حياتنا بالموسيقى والرومانس والبهجة وغذوا فينا روح الجمال والتحدي وربوا أذواقنا على وفق قيم راقية وهذبوا آذاننا ووضعوها على الخطوات الأولى على درب الافتتان بالغناء والمغنين.

ما خلف الأغنية

وإذا يئسنا من انتظار أغنيات جديدة للراحلين والراحلات منهم، فما زال بعضنا يسأل عمن ما زالوا أحياء يرزقون لكنهم يتابعون برنامج “ذَا فويس” لعلهم يشاهدون ويسمعون أغنية من أغنياتهم تلك التي تصدرت برامج الراديو والتلفزيون والسينما، منذ الخمسينات والستينات والسبعينات، وما بعدها، الذين بينهم، اليوم، من هو في ثمانينه أو تسعينه، لم يبق له سوى أن ينتظر بيأس المسنين أن يتذكر أحد المتسابقين، اليوم، أغنية له ليستحضر معها مجده الآفل وأيامه الحلوة عندما كان محاصراً بالمعجبين والمعجبات وعدسات المصورين وإلحاح الصحفيين ممن كانوا يضيقون بهم سابقاً ويعتقدونه سلباً لحياتهم الشخصية وحريتهم الفردية، بينما هم الآن يبكون وحدتهم في غرف باردة لا تصلها حتى رسالة بريد.

هذا الذي “ما خلف الأغنية” هو الذي تملكني وأنا أشاهد في “اليوتيوب” حلقات عدة من برنامج “ذَا فويس” العربي، لأنني لا أملك أي قناة فضائية عربية في تلفزيون العائلة، فكل ما احتاجه من فضائيات عربية أتابعه على “الآيباد” وغالباً ما أحتاج متابعة الأخبار وبعض البرامج السياسية الحوارية، إذ لا برنامج ثقافياً عربياً يستحق المشاهدة، بل ليس ثمة برنامج ثقافي عربي أصلاً! أو أنني لم أجد ذلك البرنامج الثقافي الذي يستحق المتابعة.
ثمة لحظات درامية، قد تبدو عابرة لبعض المشاهدين، لكنها تستحق الإشارة، ومنها ما يجري “خلف الكواليس” وهو بعض مما “خلف الأغنية”

حيث لهفة الأب ودموع الأم وقلق الأخوة على نتيجة متسابقهم، الطفل، مثل مارك معراوي وهو يغني “إن كنت ناسي هفكّرك” لهدى سلطان، الذي أعادني لهذه الفنانة الكبيرة في عودتها الشهيرة، بعد اعتزال، لتغني، قبل بضع سنوات، أغنيتها هذه وسط حفاوة جماهيرية منقطعة النظير وهي بكامل عذوبتها وحنينها وتألقها، بزيها الأزرق وحجابها الأمومي الوقور.

هدية أطفال العراق الموهوبين

طاقات صوتية مذهلة أكبر من الطفولة وقبل النجومية بقليل، أبداها الأطفال العرب في هذا البرنامج الناجح جداً، بل أنهم وضعوا الحكام النجوم في مواقف لا يحسدون عليها عندما لا يتسع العدد ليضم أحد الأفذاذ من الأطفال كما حدث مع الطفل لؤي عبدون الذي بكى بعد إنهائه لأغنيته لأن لم يدق أحد المحكمين الجرس إعلاناً بقبوله.
أو جوانة جبور وهي تتألق بأغنية “أنا قلبي دليلي” بطاقة الطفولة التي تكبر باتجاه الزمن الجميل في حوار أجيال نادر العذوبة مع جدتها المتألقة ليلى مراد، أو لؤي عبدون (10 سنوات) وهو يقتفي أثر جده محمد عبد الوهاب في “كل ده كان ليه” مثل جني أسمر يجري في عروقه نهر النيل مزخرفاً بموسيقى فرعونية أخاذة.

العراقية السمراء، بنت ما بين النهرين، تارا مونيكا، غنت “حلو حلو هوايه حلو” للراحلة زهور حسين ثم مشاركة بأغنية “ميحانة ميحانة” لمجدد الأغنية البغدادية ناظم الغزالي، فكانت مونيكا هدية أطفال العراق الموهوبين لأطفال العراق المنكوبين.

الثلاثي الملعون حتى الدهشة: نور قمر وعبد الرحيم الحلبي وجوانة جبور نثروا ريحان طفولتهم على قبر جدة الكل أم كلثوم وهم يستحضرونها بأغنية “غني لي شوي شوي” فسحروا الجميع بمن فيهم الحكام ورقّصوا بنات الحي على إيقاع الطفولة الفنانة.

إن فرحنا بأحفادنا وهم يديرون لنا ظهورهم لفرط ما يرتكب كبراؤنا من العنف والألم والحزن بحق طفولتهم يردون ردهم البليغ: لنغن، إذن، ما دمتم لا تعبأون بأحلامنا.

ملاحظة أخيرة: بما أن الفن والثقافة أُدرجت تحت جناح العولمة الثقيل، فإن هذا البرنامج، وغيره الكثير، فرصة كبيرة للمعلنين ممن يجيدون جداً استغلال الفرص الكبيرة ولا يجيدون الاستماع للغناء، لتصبح براءة الأطفال الفنانين موضع استغلال جشع في برامج تحظى بمشاهدة عالية، ولما يأتي الأطفال مفعمين بأحلام الظهور والنجومية والمستقبل الوضاء ببراءة البلبل الفنان فثمة ما يستدعي القلق المشروع على هؤلاء الأطفال السحرة، عندما يجري طيّهم في عجلة العولمة الفولاذية وهي تعبر العالم مدججة بالمشروع واللامشروع من أجل الترويج والاستثمار والربح.