مواطن صالح!
حسن العاني /
رجل تصحُّ عليه عبارة (إنسان مستور) بكل المعاني والدلالات، ذلك هو جاري أبو مصطفى، ليس له شرٌّ على أحد كما يقال، ولا تسمع له صوتاً، يذهب إلى عمله ويعود إلى منزله مثل النسمة، ولكنَّه فقير الحال يلهث وراء خبزته أينما توفرت – على أن تكون حلالاً – ولذلك فهو عامل بناء وسائق تكسي وبائع فواكه وكاتب عرائض و.. و.. على الرغم من أنَّه خريج كلية الآداب – قسم اللغة الانجليزية -، وقد رفض التعيين الحكومي قبل السقوط لأن الراتب شحيح مخجل، ورفضت الحكومة تعيينه بعد السقوط لأنَّه ركب رأسه ولم ينتمِ إلى أي حزب متنفذ!!
الرجل جاري، الحائط على الحائط، منذ ربع قرن، ولذلك فأنا أعرفه – إذا صح القول – أكثر مما أعرف نفسي، وعلاقتي وطيدة به، إنه إنسان عصامي نزيه، لا يشكو ولا يتأفف مهما ألمت به النوائب أو مسّه الضرُّ، وفوق هذا وذاك كنتُ أُحبه وأحترمه لأسباب أخرى في مقدمتها، إن اللغة الانجليزية بالنسبةِ له ليست شهادة معلقة على الجدار في غرفة الضيوف، بل هي جزء من شخصيته السلوكية والثقافية، فهو قارئ نهم في عموم المجالات، قصة، رواية، مسرح، شعر، فلسفة، علم، بهذه اللغة… والطريف أنَّ كثيراً من مفردات قراءاته تتسرب إلى لهجته العامية من حيث لا يقصد، أو يريد التباهي كم هو حال بعض مثقفينا الذين يحفظون ثلاثين مفردة أجنبية يتمشدقون بها على رؤوسنا وكأنهم يجيدون ثلاثين لغة!
قبل زمن ليس بعيداً، حدث شيء لا يصدق، فلأول مرة منذ خمس وعشرين سنة، أسمع صوته يعلو بطريقة غير مسبوقة وهو يتشاجر مع زوجه، بحيث سمعتُ كل كلمة من كلامه بوضوح، وقلت لحظتها مع نفسي: (الرجل معذور والله فقد نفد صبره، وطفح به الكيل، وثار مستعداً للشجار مع نفسه على أتفه الاسباب)، ولكن الذي استوقفني وأثار استغرابي، أن ثلاثة أرباع حديثه لم يكن مفهوما، وكأنه خليط من العربية والانجليزية والهندية والايطالية، وقد علقتْ في ذهني وذاكرتي بصعوبة بالغة هذه العبارات (يا بولانا الرحبة الرحبة، إنه بوت بن دون سب، باذا يبكن للبرء أن يعبل يا ابرأة، وتأبينُ لقبة لب يبسسها الحراب ابسى اصعب بن الوصول الى القبر ونحن بنذ اعواب برة لا نعرف غير البرقة، ولا ناكل غير التبن، فلا لحبة ولا شحبة ولا تبرة ولا بشبشة، هذا كل با قدبته التبوينية للبواطن البحروب، احبديه يا اب مصطفى على دواب النعبة)!!
ولأنني مواطن صالح قمت بدور المخبر السري واتصلت على الفور بالجهات الامنية وأخبرتها أن جاري يقول كلاماً غريباً وكأنه يتصل مع أطراف أجنبية، إذ لم أسمع زوجه، بل صوته فقط وهو يخاطبهم على ما اعتقد بلغة الرمز والكلام المشفر، وربما يكون إرهابيا وهو يتصنع الطيبة والبساطة… وقد سارعت قوة من عشرين رجلاً الى الحضور الفوري وطوقت المكان وداهمت منزله، وفتشت كل ركن فيه، وبعد التحقيق الطويل معه – لم يذكروا اسمي جزاهم الله خيراً – أطلقوا سراحه لثبوت براءته، وعدم وجود أي دليل ضد، ثم اتصلوا بي وشكروني بدلاً من معاقبتي لأدلائي بمعلومات غير دقيقة ولم اتأكد من صحتها، ثم أخبرني الرجل الذي اتصل بي وهو غارق في الضحك، أنّ جاري (ابو مصطفى) يعاني من زكام حاد جعله يقلب “الميم” الى “باء”، عنده فقط ادركتُ لماذا أصبح المخبر السري في أحيان كثيرة كارثة على الابرياء، ولكي يطمئن قلبي عدت إلى كلام جاري بعد قلب الباء ميما فظهر على النحو التالي: (يا مولانا الرحمة الرحمة، إنه موت من دون سم، ماذا يمكن للمرء أن يعمل يا امرأة، وتأمين لقمة لم يمسسها الحرام، أمسى أصعب من الوصول الى القمر، ونحن منذ أعوامٍ مُرَّةٍ لا نعرف غير المرقة، ولا نأكل غير التمن، فلا لحمةٌ ولا شحمةٌ ولا تمرة ولا مشمشة، هذا كل ما قدمته التموينية للمواطن المحروم، احمديه يا أم مصطفى على دوام النعمة)!! كم ندمت على تهوري وتسرعي وإيماني بأنني مواطن صالح…