ميسون.. ميكانيكية تصلِّح السيارات وتطوِّع الحديد
آية منصور – تصوير:صباح الامارة /
لم تكن حياة ميسون سهلة، هذه الفتاة التي تعيش حياتها وتبرَع في مهن شتى، ثبَّتت اسمها في عالم رجالي بحت، حتى أنها لم تكن تتوقع أن تبلغ هذا النجاح في مهنة اختص بها الرجال، تحلم أن تعيش لكي تنجز كثيراً مما فاتها إنجازه، وأن تصبح (فيترجية)، تتقن بمهارة تصليح السيارات وإعادتها إلى الحياة.
كيف كانت البداية؟
بداية ميسون كانت في بيت والدها، قرب جسر ديالى، حيث تركت المدرسة الابتدائية، وعملت مع والدها الذي يملك متجراً للمواد الاحتياطية، وهو مصلِّح عجلات عسكرية محترف كان قد برع في تصليح الدبابات والمدرعات، ميسون الصغيرة أحبت تلك الأجزاء الحديدية وقطع الغيار وتعايشت معها.
– بدأ والدي تعليمي كيفية التعامل مع السيارة من الألف حتى الياء، كانت تبدو كأُحجية لي، ثم فككت رموزها شيئاً فشيئاً، حتى صرت قادرة على أن أفكك السيارة اليابانية وأنا في الرابعة عشرة من عمري، وكان والدي يتابعني ويرشدني، بحدِّية أحياناً من أجل أن أتعلم بسرعة، لذا أصبحت أتقن التمدّد تحت السيارة لمعرفة ما علّتها وتصليحها.
سيارة مضحِّية وأحلام مولودة..
كانت السيارة الأولى التي صلَّحتها ميسون هي سيارة “إيسوزو” التي درج العراقيون على تسميتها “أزوزة”، بعد سنة واحدة من التدريب تحت إشراف والدها، تقول:
-كنت خائفة وأنا أصلّح سيارة للمرة الأولى، ولم يحبذ والدي إرشادي لتصحيح أي خطأ قد أقع فيه، لقد أخبرني بسهولة بالغة: أريد منك أن تتعلمي عمل كل شيء، وأن لا تعتمدي على أحد في يوم ما، ولم يصدق صاحب السيارة أن من أصلح عطل سيارته هي فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً فقط!
ميسون التي اضطرت لترك مدرستها الابتدائية، كانت تشاهد كل يوم زميلاتها وهن يتجهن إلى المدرسة.. كانت تحلم بالعودة إلى الكتب والمناهج، إذ طلبت ذلك من والدها.
– في بادئ الأمر لم يتقبل والدي فكرة عودتي إلى المدرسة، فحاولت بكل ما أملك من طرق وحِيَل، تساعدني ساعات إضافية من تصليح السيارات وتملُّق إضافي وضحكات مفتعلة، حتى وافق وتحقق حلمي.
كيف يكون الحلم؟
حلم ميسون هو التخرج في الجامعة، درست وامتحنت امتحاناً خارجياً بمواد السادس الابتدائي ونجحت، وبعد سنتين، امتحنت الخارجي الخاص بدروس الثالث المتوسط ونجحت أيضاً، ثم الخارجي الخاص بمواد السادس الإعدادي فكان النجاح حليفها.. لم يكن الطريق سهلاً، وكأنها عملية ولادة جديدة لإنسان يحاول صنع الأمل من العدم، لكنها ميسون المكافحة، التي واصلت حديثها معنا بضحكة ارتسمت على وجهها البريء: لقد كان الأمر شاقاً للغاية، أصلح السيارات وأثناء ذلك أدرس وأخبز أحياناً وأبيع الخبز للآخرين، لكن شغفي وولعي بالسيارات الأميركية كان الهوس الأكبر، ومع هذا، لم يكن مردود هذه المهنة جيداً ربما لكوني امرأة إذ لا يثق الجميع بما قد أقدمه، لكنني استطيع فعل كل شيء.
النجاح الأول
تمكنت ميسون من دراسة اللغة العربية والنجاح بمعدل جيد جداً، والتخرج في جامعة بغداد، ونعلم أن فرص العمل أو التوظيف في هذه البلاد ليست صعبة وحسب، بل تكاد تكون مستحيلة، الأمر الذي جعلها تستجيب لنداء السيارات فقط والدخول في مرحلة جديدة من هذا العالم إذ تخبرنا:
– لقد تعطلت، في إحدى المرات، سيارتنا (المچرقعة) وأراد والدي بيعها بثمن بخس، أو رميها في مكب النفايات، لأن عملية تصليحها تتطلب مبلغاً كبيراً لم يكن متوفراً لدينا، اغتنمت أوقات نومه وصرت أعمل على تصليحها في الوقت الذي ينام فيه فقط، كان يضع مفاتيحها تحت وسادته، وكان استخراجها من تحت رأسه أصعب من الحياة، تضحك ميسون على حدِّية والدها وحبِّه الشديد لهم وخوفه الذي جعله يجبر ميسون وأختها على ترك الدراسة فيما مضى، تضيف: جربت تشغيل السيارة بتعديل أسلاكها وإعادة ترتيبها وربطها، ناديته: لقد أصلحتها! لم يصدق الأمر إلا حينما وجد حركة نوافذ السيارة قد عادت إلى الحياة، كان كل شيء متوقفاً فيها: النوافذ، وأضواء الإشارة، وحتى التبريد والتدفئة تمكنت من إصلاحهما.
مغامرات الوالد وفتاته
تؤكد ميسون أن والدها كان بمثابة مهندس، يخطِّط بصمت ويرسم أفكاراً مجنونة، ويطلب من ميسون وأختها تحويل هذه الخيالات إلى واقع.. تضحك وهي تسترجع كيف أنهم صنعوا أرجوحة، وقفصاً للطيور، وحتى تأسيس شبكة كهرباء من معدات وحديد خردة من (السكراب).
– كان الأمر بالنسبة لي متعة خالصة، هوايتي تحدي الحديد، مولعةٌ حتى بصب الأرض بالإسمنت، كل هذا تعلمته من والدي الذي رحل مبكراً (رحمه الله) وترك لي مهناً متعددة أبرع فيها.
الطريق الجديد للحياة
بعد وفاة والد ميسون، بدأت بالتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن عمل يناسب هوايتها (الحديدية)، فوجدت ورشة لتصليح السيارات وصبغها، وكانت بهم حاجة لعامل، وهي اليوم تعمل معهم وتنتظر بحب قدوم السيارات لتصلِّحها، تحدثنا عن أحلامها الواسعة وقلبها الذي يمتلئ بأمنيات كثيرة:
– حاولت الحصول على قروض من أجل إنشاء ورشة خاصة بي أستطيع فيها جمع الفتيات اللواتي يضطررن إلى العيش في الشوارع، فأوفر بيئة جيدة لهن، لا أطمح إلى شيء أكثر من مساعدتهن، حين أذهب كل يوم إلى ناحية جسر ديالى، أصادف في طريقي عشرات الفتيات العاطلات، أحلم بجمعهن وتوفير مؤونة جيدة لهن من عملي في الورشة، فهل حلمي مستحيل؟ إنه ليس مستحيلاً وسأعمل على تحقيقه.