جبار الغزي عرّاب الوجع في غناء السبعينيات
أسماء عزيز /
كتب بصدق العاشق قصائده التي تفيض لوعة وحباً صافياً كماء الفرات، وكمن يغمس ريشته في دمه ويدوّن، كان لكلماته هذا الأثر الباذخ في نفوس من سمعوا الأغاني التي كتبها، والنصوص التي ألقاها في محافل عامة وخاصة.
لقد ملأ الدنيا وشغل الناس لأنه يكتب السهل الممتنع، شعره يصل القلوب بيسر، فتأنس له الروح، لكنه يأكل من قلب الشاعر، وينحت في وجدانه أخاديد من الحزن العميق واللوعة المستسرّة… خذ مثلاً:
غريبة الروح.. لا طيفك يمر بيها… ولا ديرة التلفّيها.. غِدتْ ويْ ليل هجرانك تِرد وتروحْ..عذّبها الجِفه وتاهت حمامة دوح..
ومثلها كانت قصائده المغناة… مناطرة عيوني لدربكم.. وهاي وحده وياك يالناسينه.. وعيني يم عيون تضحك.. وهلابك يالغالي هلابك.. ونسيتك بعد من بالي… وغيرها من الأغنيات التي هزت المشاعر بحنينها ودفء كلماتها التي لم تخلُ من ذكر حبيبته الحاضرة دوماً في ذاكرته وكلماته التي تغنى بها الجميع.
التقينا الشاعر عادل العضاض الصديق المقرب للشاعر جبار الغزي وسألناه عنه: فتأمل العضاض مستذكراً تلك الايام بحزن ليقول: جبار الرجل الطيب والصديق الودود الرائع الدافئ.. كانت بداية معرفتي به عام 1962 عندما قدّمنا معا الى مدارس الصناعة في السماوة.
بدأنا محاولاتنا الشعرية الأولى معاً، وبقينا معاً طوال مدة الدراسة في الرحلة نفسها والصف ذاته، وكانت قصائدنا تنشر في الصحف والمجلات وفي الإذاعات، تخرجنا عام 1969 وخطرت لنا فكرة إقامة مهرجان شعبي أنا وجبار الغزي والشاعر كاظم الركابي، وكان هذا مهرجان الشعر الشعبي الأول، وقد أخذ صداه آنذاك، والتحق بنا شعراء الشعر الشعبي من المحافظات كافة.
سألناه: كيف بدأت حياة جبار الغزي في بغداد؟.
ـ بعد انتهاء المهرجان بدأنا نبحث عن وظيفة وقدمنا وثائقنا في أماكن ووزارات…أنا قبلت في وزارة الكهرباء وجبار في وزارة الشباب وكان حلمه العمل في الإذاعة ولقاء مطربه المفضل عبد الجبار الدراجي، أما أنا فقد عانيتُ من صعوبة العيش في بغداد وقررت مغادرتها، وأبلغت جبار بذلك، إلا أنه أجابني: أنا حلمي هنا ولن أترك بغداد. عادل الرفيق والصديق الحزين لفراق صديقه طأطأ رأسه وتحدث بحزن: بغداد ابتلعت جبار في الزحام الكبير، وضياع حبيبته جعل منه شخصاً متمرداً، كنت ألتقيه بين حين وآخر، يتنهد عادل وعيونه ملأى بالدموع ويضيف: جبار كله “ينحب” ضياعه وحياته اختزلها في أغنية (غريبة الروح) التي كانت هويته الحقيقية في غربته.
الفنان حسين نعمة الذي غنى من شعر جبار الغزي أروع أغانيه، التي عُدت فرائد الغناء السبعيني، حدثنا عن جوانب أخرى من شخصية الغزي:
كان جبار يمتلك الصدق والرومانسية وسمو المشاعر حتى في انتقاء الكلمات الشعرية، أول لقاء جمعني به في مهرجان الشعر الشعبي في الناصرية وهو أحد مؤسسيه، لم أكن حينها مطرباً محترفاً، كنت عضواً في الفرقة الموسيقية التابعة لمديرية تربية الناصرية ومعلماً اُشرف على مدارس عدة وأعلّم الأناشيد الوطنية والموشحات، تعرفت حينها على جبار، وبعد المهرجان أقمنا دعوة للضيوف وكانت جلسة شبه فنية حافلة بإلقاء القصائد والغناء.
سألنا الفنان حسين نعمة: ما الذي دفع به الى بغداد؟ فأجاب: كان يحب امرأة حدّ الولع، وبعد زواجها هجرَ مدينته متجهاً صوبَ بغداد، الى منطقة الصالحية تاركاً خلفهُ أحلاماً لم ترَ النور، متوجهاً الى المجهول وعائماً في الضياعِ والتمرد وهو يمتلك روح الشاعر الذي مزج كلماته الجميلة بألم الفراق بعدَ تجربة الحب التي قضت على الفرح في روح جبار.
وجواباً عن سؤالنا: ما قصة أغنية غريبة الروح مع جبار ومعك؟: حدثني الملحن محسن فرحان عن أغنية قدمها للإذاعة ورفضت، وطلبت منه سماعها، فأذهلتني لما تحملهُ من ألم وشجن، سألته لمن هذه الكلمات؟ أجابني: لابن ولايتك جبار الغزي، وبعد مدة التقيت جبار وقلت له سأغنيها أنا وبعد أن غنيتها نالت شهرة واسعة وأحبها الناس حتى أن الشاعر الكبير الراحل عريان السيد خلف كان يقول عنها: إنها العمود الفقري للأغنية العراقية.
واستكمل حديثهُ بحسرة وحزن مستشهداً بكلمات الغزي التي كانت تكفي للتعبير عن حزن وضياع كاتبها:
ما بيّه اعوفن هلي ولا بيه اعوف هواي..قلبي نسيته هنا ياهو اليدوره وياي.
ولعل كل من يعرف جبار وأغنياته يستفهم مثلنا: لماذا لم يكتب جبار عن الفرح؟ يجيب الفنان حسين نعمة: لأن الفرح لم يطرق بابه وكانت الكلمات هي المرآة التي تعكس أحزانه، ذات يوم كنا جالسين أنا وجبار ومدير الاذاعة والتلفزيون، فقال المدير لجبار: كفاك تكتب عن الألم والمعاناة، اريدك أن تكتب عن الفرح، وأثناء حديثه أجابه جبار: يكولون غني بفرح، وآنه لهموم اغناي، بهيمة ازرعوني ومشو، وعزّو عليّ الماي..
وكانَ ختام حديثنا مع ابن أخي الراحل جبار الغزي حسن علي عبد الرضا، الذي سألناه: لمن كان يكتب جبار الغزي؟
فقال: أغلب ما كتبه من الأغاني كانت لحبيبته التي كانت تسكن منطقته في ناحية الفجر، وقد هجر الناصرية هرباً من ذكرياته معها، إلا أنها لم تفارق حياته وذكرياته وأشعاره، وكان قلبه المتمرد يأبى ذلك، وقد التقى بها بعد ذلك، وكان لقاؤهما حزيناً جداً لم يخلُ من الألم والدموع.