مسرحية “خيانة ” لـ جبار جودي شخصيات شكسبير تعيد رسم واقعنا الدامي

1٬079

طه رشيد/

الخيانة فعل إنساني، ينقسم تأثيرها إلى نوعين، خاص وعام، والخاص هو الذي يتعلق بمجموعة من الأفراد في زمن ومكان ما، اما « العام « منها فهو الذي يتعلق بمصير مجموعة بشرية كبيرة يمكن أن تشمل كل القاطنين داخل سور العشيرة او الحزب او الوطن! ومن هنا سميت في القوانين الجرمية ب»الخيانة العظمى !» والتي تؤدي بصاحبها او أصحابها إلى التصفية الجسدية. إلا ان عظمة شكسبير ككاتب درامي تراجيدي قد اعطى لخيانات شخصياته واحداثه معنى كونيا شموليا.

اللعبة المسرحية

وحاول المخرج – المؤلف جبار جودي وبالتعاون مع زميله صلاح منسي كتابة نص جديد حول الخيانة مستمدا من روائع شكسبير الستة « هاملت وماكبث وعطيل والملك لير ويوليوس قيصر ريتشارد الثالث « ليطل، من خلال العرض المسرحي، على الواقع العراقي بكل ملابساته وتعقيداته. وقد نجح جبار جودي بمسك الخيط الرفيع الذي يربط بين الدم الذي ملأ مسرحيات شكسبير الستة وبين نهر الدم المتدفق في الوطن منذ عقود!

تتقدم الشخصيات الشكسبيرية الواحدة تلو الاخرى أمام المايكرفون – الكاميرا لتضع بين ايدينا عصارة واقعها الدموي . تتقدم الليدي ماكبث( بشرى إسماعيل ) لتقول : « هذه يد، على صغرها، لا تطهرها جميع العطور» .
ويختمها ماكبث (خالد أحمد مصطفى ) بالقول: « وهل تغسل البحار العظيمة كلها هذا الدم ؟! «. وبعد هذا العرض السريع للشخصيات تبدأ اللعبة المسرحية حيت تدخل صحفية ( الإعلامية جيهان الطائي ) برفقة مصور تلفزيوني لتجري تحقيقا سريعا عما سيقدمه الممثلون الذين اوضحوا بأنهم يلعبون شخصبات شكسبيرية، وعن سبب اختيار شكسبير يجيبون بأن ما كتبه شكسبير من مآسي يشابه او يضاهي ما يمر به شعبنا من نزف للدم!

الحيل التقنية

وتبدأ اللعبة حيث يظهر يوليوس قيصر (مازن محمد مصطفى) وهو يخطب بأعضاء البرلمان (استخدم المخرج هنا ثلاث «دميات» وترك للمتلقي تفسير هذا المشهد فهل كان أعضاء البرلمان منذ غابر الزمان دمية بيد السلطان؟!) وينتهي المشهد ب»إطلاق الرصاص!» على قيصر ويترك المسرح مضرجا بدمائه، وبحيلة فنية متقنة تحل لوحة مطابقة للحدث يركنها رجال الحماية بملابسهم العصرية ونظاراتهم السوداء على جانب المسرح الايسر لنتابع مباشرة على الجانب المقابل الليدي ماكبث وهي تتفرج على نفسها في شريط سينمائي تتلو واحدا من حواراتها الشهيرة ثم تتقدم لتجرجر الشاشة تاركة صورتها الكبيرة مركونة على يمين المسرح، ويكرر المخرج هذه الحيل التقنية في بقية المشاهد لما تبقى من الشخصيات، حيث تتوزع اللوحات في مختلف ارجاء المسرح. إجادة رائعة باستخدام التقنيات.

شريط سينمائي يوثق الحياة

وينتهي الفصل الاول من العرض المسرحي بدخول الصحفية مجددا لتسالهم ماذا لو تركنا الشخصيات الشكسبيرية التي شاهدناها ان تكون جزءا من الواقع العراقي؟!

وهنا يبدأ الفصل الثاني من العرض المسرحي من خلال شريط سينمائي يوثق الحياة العراقية – البغدادية، الازدحامات والباعة المتجولون وباعة الارصفة لينتهي الشريط بتفجير يأتي على الاخضر واليابس من الفقراء والمعدمين .
تظهر فتيات شكسبير الثلاث « اوفيليا ودزدمونة والليدي مكبث « بطريقة كوميدية سوداوية فوافيليا مشغولة بالاتصال باصدقائها عبر النت، ودزدمونة مشغولة بمكياجها، بينما الليدي ماكبث نراها وقد احتضنت» الطست» وهي تفرك غسيلها. ويتناوبن بالنقد اللاذع للحياة العراقية المعاصرة وتراجع الحياة على مستويات مختلفة، من النظرة المتدنية للمسرح والفن إلى التستر بالتقاليد الشرقية والأعراف الاجتماعية والدينية زورا وكذبا. وتتوالى المفارقات في شخصيات عطيل وماكبث وهاملت. وقد استطاع المؤلف ( جبار جودي وصلاح منسي ) هنا ان ينجحا أيما نجاح بتركيب مشهد جديد يجمع بين الشبح في مسرحية « هاملت» والساحرات في مسرحية « ماكبث « ليبلغن هاملت بأن « الدوائر البيضاء والسوداء خربت حياتنا»!

أسماء شهداء الكرادة

عودة مجددا لشريط سينمائي والباعة المتجولين لتظهر اوفيليا هذه المرة وهي تدفع بعربة صغيرة لبيع الملابس المستعملة، بينما دزدمونة تبيع الملابس الداخلية، واستطاعت الليدي ماكبث ان تفتح محلا لبيع أبر مختلفة الأحجام والأغراض!
وينتهي المشهد بتفجير جديد عبر شريط آخر تلوح منه جنائزا معلقة أخذت شكل يافطات تعلن أسماء شهداء الكرادة. وهنا تنتهي اللعبة المسرحية التي أجاد صنعها المخرج جبار جودي وخاصة على مستوى التقنيات والسينوغرافيا، وكيف لا وهو السينوغرافيست الأول، كان كل شيء متقن، الحركة والانارة ومساقط الضوء والازياء وتوزيع الديكور. كل شيء محسوب بدقة حتى تحية الجمهور!

أود أن أشير هنا للفرق الكبير بين «المسرحية» و»العرض المسرحي»، إذ ان المسرحية تستوجب شروطا معروفة، من « الحدوتة» إلى « الخط الدرامي « الذي يربط بين أجزاء المسرحية مرورا ببناء الشخصيات التراكمي.

اما العرض المسرحي، وإن اقترب من غرض المسرحية، إلا انه يبتعد عنها بامتلاكه حرية التصرف وهذا ما لمسناه في «خيانة» التي كانت « عرضا مسرحيا» موزعا على فصلين كما أسلفنا، وهذا لا يقلل من قيمة العرض مطلقا.

وهنا نشيد بجهود كل الفنانين الكبار سواء من الفرقة الوطنية للتمثيل او من خارجها الذين قدموا عملا جميلا مؤثرا ومسرا وخاصة على مستوى التمثيل واجادة اللعبة المسرحية، وهم : سوسن شكري بدور دزدمونة وبشرى اسماعيل بدور الليدي مكبث ومازن محمد مصطفى بدور يوليوس قيصر وخالد أحمد مصطفى بدور مكبث واياد الطائي بدور الملك لير وطه المشهداني بدور هملت وضياء الدين سامي بدور عطيل وشروق الحسن بدور أوڤيليا اما الاداء إذاعي لشخصية ( ريتشارد الثالث ) فهي بصوت الفنان حيدر منعثر، وبمشاركة الشباب الصغار هاشم جبار وهمام جبار .

ولا بد هنا من الاشارة إلى ان « خيانة « هي من إنتاج دائرة السينما والمسرح – قسم المسارح وتقديم الفرقة الوطنية للتمثيل مع الاستعانة ببعض الأسماء اللامعة من خارجها، وقدم العمل على خشبة المسرح الوطني للأيام 11 و 12 و 13 / 8 / 2016 .