كاسيت سيد محمد ومفرزة الأمن !

433

عادل مكي /

أربعة رجال، مفتولي العضلات، طوال القامة، يرتدون ملابس مدنية، ترجــــــــــلوا من سيارة لاندكروز بيضاء،
وقفوا يتفحصون واجهة محل (تسجيلاتنا الصوتية) في مدينة الشعب.
قبل دخولهم إليه، كنت أقف ساعتها وسط المحل فبادرني أحدهم بالسؤال:
هل أنت صاحب المحل؟!
أجبت بخوف وتردد وتلعثم: لا أنكره،
نعم انا صا.. ح.. ب.. ال.. م.. ح.. ل.
قال :- نحن من الأمن العامة.
(كما كنت أتوقع تماماً)
قلت لهم :- تفضلوا
قال :- جئنا نبحث على تسجيلات وكاسيتات ممنوعة لديك.قلت لهم، وأنا أشعر بقواي تخور، أو أن قدميّ ماعادتا تحملاني، وأرتجف كسعفة في نخلة عيطاء تتلاعب بها رياح الخريف، على أية حال.. تمالكت نفسي.. وقلت لهم: استريحوا وطلبت لهم الشاي.لم يُجد الأمر معهم.. فقد باشروا بالبحث والتفتيش مباشرة، وفي كل مكان وزاوية من زوايا المحل. قال كبيرهم –
بلهجة صارمة-: أجبنا بصدق، هل تطبع وتبيع الأشرطة الحسينية والمحاضرات الدينية والمطربين الممنوعين كفؤاد سالم، قحطان العطار، وغيرهم من (الخونة)؟
قلت له وأنا ارتجف خوفاً:- طبعاً لا.. نحن نطبق تعليماتكم حرفياً.. (وعيني وقلبي معلقان بسقف المحل وقاعدة الإنارة التي تضم تحتها عشرات مما يبحثون عنه)، التي لا يعلم سرها سوى الله وأنا وزبائني الثقات، الذين أطبع لهم تلك الأشرطة تحت جنح الظلام. بعد لحظات وقعت عين كبير المفرزة على شريط كاسيت مكتوب على غلافة اسم (سيد فيصل وسيد محمد..(!!
ليلتف لي بعينين ملؤهما الغضب، وكأنه وجد ضالته قائلاً: وهذا كاسيت السيد شيسوي عندك؟! وبلا تردد قلت له: أستاذ هذان مطربان يغنيان الأطوار الريفية.
حينها اجتر ضحكة طويلة قائلآ: الساده ماخلوا شي، حتى بالغنة حطوا روحهم…
ثم سألني الآخر قائلاً:
– يول.. انت مو الشاعر اللي تطلع بأغاني باسم العلي وتكتب لصلاح البحر وياسر البصري وعلي العيساوي؟
فقلت له :- نعم.. نعم.. حينها فقط تنفست الصعداء.
فقال :- لعد انت من ربعنا ..
من ربعكم.. من نصكم.. المهم أن أجد مخرجاً من هذا المأزق الكبير، وينتهي الامر بسلام، وهذا ما حدث، وخرجت مفرزتهم الأمنية بعد أن وعدوني بزيارة أخرى تاركين رقم هاتف للاتصال بهم ودعوتهم لأقرب حفلة يقوم بها أصدقائي المطربين.
هذه القصة كانت واحدة من آلاف القصص التي مررنا بها في عالم الكاسيتات وتسجيلاتها.
واجهة إعلامية
عالم التسجيلات (الكاسيت) كان –حقاً- عالماً عجيباً غريباً، فيه الكثير من المتعة والجمال والبساطة والرقي، وتتطلب (المحال الكبيرة) من صاحبها أن يتمتع بشعبية وكاريزما وعلاقات ممتازة، كونه نقطة اتصال مهمة بين الفنانين والشعراء والأدباء والكتّاب الذين يواظبون على الحضور في تلك الأماكن، التي تبدأ منها المشاريع الفنية من حفلات او تسجيل أغانٍ او طرح ألبوم (كاسيت جديد)، لذلك يتودد العديد من المطربين (لصاحب التسجيلات) كي يبث أغانيهم او يشركها في الكوكتيلات التي يقوم بعملها ونشرها لأكثر من مرة، مع عرض صورته أو أي بوستر له على واجهة المحل، لأنها تسهم في التعريف بهم، فقد كانت محال التسجيلات تمثل واجهة إعلامية للانتشار والتسويق.
مرحلة قاسية
لكل صنعة سر في هذا العالم، لكن في صنعتنا تلك مئات الأسرار التي نحتفظ بها، من بعضها امتلاكنا لمكتبة كبيرة من (أشرطة الكاسيت) لفترات مختلفة ومتنوعة من تاريخ العراق مسجلة بأصوات الزعيم عبد الكريم قاسم وخطب دينية لمختلف رجالات المنابر المرموقين وعشرات الجلسات الشعرية لمظفر النواب وعريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الكاطع وآخرين. وبما أن دوام الحال من المحال، فقد مر العراق، ونحن معه، بمرحلة سوداء معروفة الذكر، ومنها فترة الحصار التي أنهكت حياة المواطن البسيط، الأمر الذي جعل معظم الناس لا يقوون على شراء متطلباتهم الحياتية الرئيسة فما بالك بشراء كاسيت؟
ولتجاوز تلك المسألة بذوق العراقي (السمّيع) فقد كان يقوم بتسجيل أشرطة الكاسيت أكثر من مرة، بعد مسحها من مادتها المسجلة، وإعادة تأهيل الأشرطة المقطوعة ثم يقوم بلصقها بـ (تيب شفاف) او (بصبغ الأظافر) لتعود للعمل مرة أخرى!
أجهزة التسجيل
قبل دخول أجهزة التسجيل، الخاصة بتسجيل الجلسات الغنائية، لم يكن في العراق أي ستديو للتسجيل، عدا ستديوهات إذاعة بغداد، وكنا نسجل بطرق بدائية جداً عن طريق المسجلات البسيطة مثل (الأكاي).وفي منتصف التسعينيات دخلت (مِكسرات) الصوت الى العراق، فساعدت في تأسيس اكثر من ستديو خاص في بغداد، من أهمها ستديو الرواد في المنصور، وستديو حكمت في الشعب، وستديو الراحل حميد العبودي، وستديو الراحل علي صالح في شارع فلسطين، وستديو طلال نعيم قرب القصر الأبيض، وستديو الفنان سعدون جابر في منطقة القاهرة . هذا التحول أسهم -بشكل كبير- في عمل محال التسجيلات الصوتية لكثرة الإنتاج وغزارته.
نهاية الأشرطة الصوتية
وبعد الانفتاح على العالم الخارجي ودخول الإنترنيت (وآه مما فعله بنا هذا الإنترنيت المباح)، انحسر عمل التسجيلات ودخول الأقراص الليزرية ومواقع كثيرة تبث الأغاني المجانية، فبمجرد ضغطة زر تحصل على ما تحب من الأغاني او المواويل، وبذلك تلكأ عمل ستديوهات التسجيلات والكاسيتات وترنح. ورغم محاولات أصحاب الستديوهات والتسجيلات الصوتية الصمود أمام هذا التطور السريع، غير أن محاولاتهم باءت بالفشل، وأصبح الحديث عن شريط الكاسيت من الماضي، وليتحول الكثير من محال التسجيلات الى مهن أخرى أو الى الإغلاق، ويصبح ثمن أغلى الأجهزة التي كانت تستعمل في التسجيل، او استنساخ الكاسيت، التي كانت تشترى بأرقام (فلكية)، ثمناً بخساً.
ورغم ذلك يحاول بعض محبي تلك المهنة الاحتفاظ بتلك الأجهزة او الأشرطة الصوتية في بيوتاتهم، حباً بها وبالذكريات الجميلة التي رافقتها طوال تلك السنين، إذ يبقى عالم التسجيلات الصوتية، الذي ارتبط بالذاكرة الفنية العراقية، عالماً خاصاً فيه الكثير من الحكايات.