يوم كاد فالح حسون الدراجي أن يقتلنا!

590

عادل مكي/

استدعيت إلى مركز الشرطة بعد أن بلغني أن ضابط الأمن يطلبني شخصياً. بدا الأمر للوهلة الأولى كأنه حالة طبيعية كسابقاتها من الاستدعاءات المتكررة، مثل كل يوم نعيشه في خضم نظام بوليسي معروف، لكني اكتشفت أن هذه المرة يبدو أن الأمر مختلف عما سبق، إذ أنه كان معقداً ومخيفاً ومرعباً.
بعد أن جلست أمام الضابط على كرسي خشبي قال لي بنبرة حادة ومريبة: هل أنت الشاعر عماد مكي؟
فقلت له:- لا سيدي، أنا الشاعر عادل مكي، وعماد أخي الأصغر، وهو عازف عود وملحن ولا يكتب الشعر.
فقال لي، وبلكنة حادة: “ليش جهاز الأمن الخاص طالبينه”..؟ هل يكتب أخوك الشعر الحسيني؟
فقلت له :- لا.
رفع بيده، من فوق مكتبه، ملفاً كبيراً وقال: هذا الملف الكبير كله يخص أخاك ومطلوب مني إحضاره وإرساله الى جهاز الأمن الخاص خلال يومين.
اعتراف جندي
وأضاف: لقد ألقي القبض على جندي هارب من الخدمة العسكرية في إحدى السيطرات، وبعد تفتيشه وجدت هذه القصيدة في جيبه مع منشورات أخرى (ضد السيد الريس)، وقد اعترف بأنه سمع هذه القصيدة من الشاعر عماد مكي، وقام بكتابتها والاحتفاظ بها، والجندي الآن في قبضة جهاز الأمن الخاص ويواجه الحكم بالإعدام لأن كلمات القصيدة تمس سيادة (الريس القائد).
ثم أخرج (القصيدة القاتلة) من الملف وقال :- اقرأها! فأمسكت بالقصيدة وأنا أرتجف، وقرأت :-
“الليلة عيد وخلي كلنه نحتفي بميلاده
اسنين ماشفنه الفرح واعياده
اذا مو بحسين بيمن نحتفي
وياهو يسوه النحتفي بميلاده
حبّه ثابت بالگلب ما يختفي
وشعلته لآخر زمن وكاده
ويوم طاح حسين في أرض الطفوف
الله مد ايده لحسين وساده “.
ولكي أوضح له ملابسات تلك القصيدة..
قصيدة فالح
قلت لضابط الأمن إن تلك القصيدة من نظم الشاعر فالح حسون الدراجي، وهو الآن خارج العراق، وقد سمعها أخي منه وحفظها عن ظهر قلب .
فأردف قائلاً وبنبرة حادة: وكيف عرفت أن هذه القصيدة للشاعر فالح حسون الدراجي؟ أكيد(انتو ربع)، فقلت له: ياسيادة الضابط الكريم الشاعر معروف عند السلطة والنظام، إذ لا يخفى عنكم شيء وهو الآن خارج العراق، وتلك القصيدة معروفة عن غالبية الناس.
لكن الحديث لم يجد معه، فقال: أريد من أخيك أن يسلم نفسه، فلدي أمر بإلقاء القبض عليه صادر من جهاز الأمن الخاص، والموضوع لا يحتمل لأنه يمس (السيد الريس.. ( أمامه يومان لتسليم نفسه، والا.. (ستكون أنت في السجن مكانه). خرجت منه وأنا في حالة من الارتباك، لا أعرف ماذا أفعل..
اتصلت بأخي عماد وقلت له: (هِج)، أي اهرب قبل فوات الأوان .
وفعلاً ذهب متخفياً بجنح الظلام عند أقاربنا في إحدى المحافظات الجنوبية تاركاً أطفاله وعائلته في عهدتنا لحين انفراج أمر تلك القصيدة التي كتبها الشاعر فالح حسون الدراجي، الذي كان قد قرأها في جامع الزهراء الواقع في سوق مريدي بمدينة الصدر بمناسبة ميلاد سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين (عليه السلام) قبل أيام من ميلاد صدام، وقد غص الجامع –حينها-بالمحتفلين الذين كان جلّهم من مقلدي السيد الشهيد محمد صادق الصدر، حيث كان الحضور غفيراً بدرجة مدهشة ومخيفة للسلطة حينها، وحين اعتلى الشاعر المنصة، ولم يكن يخفى علينا وجود رجال أمن النظام بين الجموع بصيغة حضور عاديين، كمسؤول أمن المنطقة وحاشيته الجالسين تحت المنبر مباشرة او متفرقين.
الشاعر الشجاع
فقرأ الدراجي القصيدة.. والتهب الجو في ذلك المكان بين مكبِّر بالصلوات وآخرين يبكون لجمال تلك الكلمات، حتى أن أحد طلبة السيد الشهيد محمد صادق الصدر أخذ القصيدة من يد الشاعر قائلاً له: سأنقل تلك القصيدة إلى (السيد)، وفعلاً وصلت إليه وكان مسرورا بها، واصفاً ذلك الشاعر بالبطل والشجاع. حاول الشاعر بعدها النزول من المنصة، لكن كثرة المتجمهرين والمعجبين حوله حالت دون ذلك، فهب إخوته وأولاد عمومته لإحاطته من كل جانب وتهريبه من باب خلفي للجامع خوفاً عليه من رجال الأمن الذين استشاطوا غضباً باحثين عنه بين الناس لكن دون جدوى، فقد كان (فص ملح وذاب).
الساهر ينقذ الدراجي!
بقي الشاعر مختفياً عن الأنظار والبحث عنه صار ديدن رجال الأمن، فاصدر (عدي نجل المخلوع)، حينها، قراراً بمنع الدراجي من السفر، حتى جاء عام 1996 فطلب الشاعر من الفنان كاظم الساهر مساعدته والتوسط له للخروج من العراق بأية صيغة.. وفعلاً توسط الساهر لدى عدي بحجة أنه يحتاج له في كتابة أغاني جولاته الخارجية (خدمة للوطن.. كذا).
وبعد إلحاح ومتابعة من الساهر، وافق عدي وخرج الدراجي مع فرقة الساهر إلى عمان على أن يضمن الساهر عودة الدراجي إلى العراق بعد انتهاء السفرة، وهو الأمر الذي لم ينفذه كلاهما، إذ لم يرجع، لا هو ولا الساهر إلى العراق، وليحصل الدراجي -بعد ذاك- على اللجوء خارج العراق ليستقر في أميركا .
أما قصتي مع ضابط الأمن فقد استمرت فصولها كفصول المسرحيات المضحكة المبكية، إذ ظل يهددني يومياً طالباً مني إحضار أخي و(وين راح.. ومنين إجه).
حتى جاءت المرحلة الثانية من القضية، وهي مرحلة الاستنزاف المادي والمتباينة، مابين هدايا عينيه وطلبات تعجيزية، من مبالغ نقدية وسهرات وأفخم البدلات والأحذية وما تشتهي النفس. ولم يكن لنا خيار سوى أن نلبي طلباته خوفاً من تنفيذ تهديداته بإلقاء القبض علينا .
بقينا على هذا الحال من الاستنزاف المادي والمعنوي فترة طويلة من الزمن، حتى جاءني في يوم أحد المقربين من ذلك الضابط قائلاً لي إن ضابط الأمن كتب في ملف الدعوة -منذ بدايتها- إن المطلوب في القضية ليس من سكنة هذه المنطقة، لكنه يساومك كي يبتز منك ما يريد .توالت الأيام والأشهر ونحن نلبي طلبات ذلك الضابط بعين ملؤها الحسرة والألم، فقد كان ذلك الاستنزاف غصة في القلب، في وقت كان الحصار ينهش بنا، إذ لم ينته الأمر مع ضابط الأمن الذي (نغص) علينا الحياة بالترهيب والتخويف، ثم جاءت مشيئة السماء كي تنقذنا من سطوته وجبروته الأحمق بعد أن نُقل إلى أحد المراكز الأمنية (لإخلاصة وتفانية في أذية الناس، وليس العكس) خارج مدينة بغداد .
وهو الأمر الذي سمح لأخي عماد بالعودة إلى أطفاله وعائلته من جديد..